أيقظها صوت المطر..شعرت بقطراته تقبل الأرض بحرارة كان بينهما موعدا طال انتظاره..و كان الشوق قد تمكن منهما أيما تمكن..رفعت رأسها قليلا فتسرب إليها شيء من البرد حاولت أن تعود للنوم من جديد. و لكن هيهات ..فجأة هرب النعاس من مقلتيها..و استيقظت أفكارها و هواجسها..وآلامها.
فالشتاء ككل سنة يحمل إليها ذكرى بل رزمة من الذكريات المحزنة..تتمنى أحيانا لو تستطيع أن تمنع الشتاء من القدوم..لو تلغي هذا الموسم من أجندة السنة و أحيانا أخرى تتمنى لو تستطيع العودة إلى الوراء و تغيير الزمن..
و لكن أنى لها هذا؟
فهي مجرد عجوز في الستين من عمرها..أكل الدهر رعيليها و شرب..غارت عيناها و ملأت الأخاديد وجهها الذي كان في يوم من الأيام مفعما بالصبا و الجمال..و انحنت قامتها التي لطالما تغزل فيها زوجها الراحل "سي محمد" الذي قضى نحبه في حادث مرور مروع وقع في الطريق الرابط بين "سعيدة" و "سيدي بلعباس" حيث كان -رحمه الله- يعمل سائق سيارة أجرة..و لأنه كان -كما تذكر جيدا- مصرا على العمل في ذلك اليوم المشؤوم رغم أن الثلوج المتساقطة كانت تذكرة الموت في تلك الطريق التي لا تصلح أبدا أن تكون طريقا!
تزوجها و هي لا تزال طالبة في المتوسطة ابنة 15 ربيعا..لم تكن تفقه آنذاك شيئا عن المسؤولية و لكن السي محمد كان نعم الزوج إذ صبر عليها حتى أصبحت ربة بيت ممتازة يشهد لها الجميع بالمهارة و التفوق.
استجمعت قواها الخائرة..ونظرت من النافذة..لاشيء سوى الظلام لتراه..اختفت كل النجوم من السماء تماما كما اختفت الأفراح بعالمها..لا صوت هناك لتسمعه..سوى صوت زخات المطر..عادت إلى مكانها..تشعر باليأس..فمعركتها مع الحياة انتهت بالهزيمة..أطرقت هنيهة ثم قالت بصوت خافت تقطعه الأنات..صوت متعب من كل ما قاله خلال عقود من الزمن:
« يا الهي ماذا جنيت أنا! »
ثم ابتسمت ربما لأنها تذكرت عدد المرات التي رددت فيها هذا السؤال دون أن تعثر له على إجابة أو ربما لأنها مازالت تذكر عبارة سمعتها في شبابها "قمة التحدي إن تبتسم و في عينيك ألف دمعة" و في عيون الحاجة "خديجة" ملايين من الدموع..أو ربما ابتسمت لحاجة في نفس يعقوب..
جالت عيناها طويلا في أنحاء الغرفة ..ثم وقعت على صورة في الزاوية..صورة تجمعها بأبنائها الثلاثة،أغمضت عينيها و انشات تتذكر كيف كان هذا البيت صاخبا في يوم ما،كان الأبناء صغارا حين تركهم السي محمد و انتقل إلى جوار ربه تولت هي أمر تربيتهم ورعايتهم و تعليمهم،إذ كانت شابة قوية أفنت جهدها ووقتها في سبيل إسعادهم و رغم أنها لم تمتلك شهادة ليسانس أو حتى دبلوم فقد اشتغلت خادمة في البيوت..ثو توسط لها احد معارفها و اوجد لها منصب شغل كعاملة تنظيف في مدرسة ابتدائية..
و كبر الأبناء و كبرت معهم أحلام الحاجة "خديجة" و كبرت أيضا مشاكلهم ولم يعد أي منهم يسمع لكلام الأم التي حملت و ربت و عانت لأجلهم الأمرين..
مازالت تتذكر ذلك اليوم الذي جاء فيه ابنها الاكبرقاسم يحمل بيده رزمة من الوثائق و تعلو وجهه ابتسامة عريضة..
-أراك سعيدا يا بني
-نعم..زغردي يا أماه..لقد أتممت وثائق السفر..
-أي سفر هذا؟
-أمي لقد تخرجت منذ سنتين من الجامعة..و أنا للان عاطل عن العمل..لذا سأسافر إلى فرنسا..هناك يا أمي سأحصل على..
فقاطعته
-أتتركني يا ولدي..أتترك بلدك و اهلك..