أوراق من... ذكريات مجاهد.. حوار مع المجاهد محمد ولد عروسي المدعو {طوطاح الاسم الثوري}
عن يومية الحوار الجزائرية
محمد طوطاح ولد العروسي، شاب خرج من رحم الحياة الريفية ،عاش طفولته بوسائل البراءة تعلم ماتيسر من القرآن في الزوايا القرآنية وحرم ككل الجزائريين من مواصلة التعليم ، صنعته الحياة فساهم في صناعة الحياة بتضحياته من أجل استرجاع وطن مفقود، كبرت معه الوطنية، وما إن هبت رياح الثورة حتى كان من أوائل الشباب الذين لبوا النداء، احتضنته الثورة فأحتضن آمال أمته ليكون واحدا من أبنائها البررة مجاهدا، ومن أسرة المجاهدين... كنا ثلاثة نتجاذب أطراف الحديث عندما قال الصديق دعكم عنا من الثورة.. ففزع المجاهد طوطاح متأسفا وانبرى يقول لولا الثورة المباركة لبقينا في الماضي نسيا منسيا، ولما كان لنا هذا الوجود.. الحديث عن الثورة أمانة وواجب وطني من أجل إماطة اللثام على جرائم فرنسا الاستحمار وأذنابها،وكشف الذين هاموا على وجوههم لغير وجه الحق، اهتبلتها فرصة سانحة ونحن على أبواب عيد الاستقلال، فحاورته وأخذنا بأطراف الحديث وكان الحوار شيقا...
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا وسالت بأعناق ألمطي الأباطح
من هو سي محمد طوطاح ولد ألعروسي؟
هو الضابط محمد المدعو {طوطاح الاسم الثوري} ولد في شلاله العذاورة عام 1939ولاية المدية {تيطري سابقا} من أبوين كريمين أبوه {لهجرسي} وأمه طهاري {عائشة} توفي والده عام 1945 وهو لم يبلغ من العمر خمس سنوات، كفلته أمّه وشبّ على حبها متشبثا بالأرض وغرست فيه ومنذ نعومة أظافره بذرة الوطنية،وقد توفيت عام ,1960 والمرأة العذاورية بقيت صامدة أبيّة ، فقدّمت الأم ابنها، والزوجة رفيق دربها من أجل تحرير الجزائر،كانت الأسرة العذاورية متضامنة متعاونة،في هذا البيئة تلقى {طوطاح} تعليما في مقرأة الدشرة وحفظ ماتيسر من القرآن الكريم كانت حياته نابعة من بيئته المجاهدة، فهو رجل كامل النضج حيوي كثير السفر يحب الخير سمح المخالطة، قصيرة القامة، بدين ابيض البشرة وسيم، يبسط يديه لكل مخلص منصف كريم مبذال نزيه، يعتبره الكثير من الشواهد التاريخية لشلالة العذاورة المجاهدة ، تحيط به الأسرار التاريخية، اشتهر وشاع صيته إبان الثورة وبعد الاستقلال وأصبح اسمه مفخرة ورمزا، ويكفيه شرفا أن أسرته مجاهدة وهو من السباقين إلى نداء الثورة.. بعد الاستقلال تقلد مناصب سياسية واجتماعية وما يزال عضوا في المنظمة الولائية للمجاهدين والكل يكن له المحبة والتقدير.. كيف جاءتك الفكرة والتحقت بصفوف المجاهدين في ثورة التحرير، حدثنا عن انطباعاتك في أول يوم تلتحق فيه بالثوار؟ وكيف كانت المعنويات وقد صرت مجاهدا؟ تململ على الفراش وكان مضطجعا ثم استوي جالسا، وشهق متنهدا وقال: انتظرنا نحن الشباب هذا اليوم الأغر بفارغ الصبر، وكنت يومئذ أبلغ من العمر سبعة عشرة ربيعا، بين إخوة ثلاثة نقيم بإحدى روابي شلالة العذاورة بمكان يسمى لقباب{شنيقل}...قبّالة الكاف لخضر، نستطلع أخبار الثورة ونتابع أحداثها بشوق، وقد هبّت رياحها زاحفة من أوراس وبلاد القبائل، وقد وصلت طلائع من المجاهدين جبال ديرة والكاف لخضر وجبال الصبّاح كموج طفيف، أين تمركزوا بأدغالها وأخاديد دروبها، وشرعوا للتو في بناء نسيج داعم للثورة معززا لصفوفها نواة من شباب المنطقة، ثم حرك كوب الشاي وداعب حبات الكاكاو التي صعب عليه ابتلاعها في غياب أسنانه، استرجع أنفاسا لتتداعى الذكريات كقطع الليل، فانبرى يحدثنا بسيل من الحكايات، نكس رأسه هنيهة وقال: كنت احتفظ بالبذلة العسكرية أخفيها مع لوازم أخرى وكنت انتظر الفرصة المناسبة، وعندما أزفت الآزفة ودق ناقوس النداء عام ,1956 تلفعت الزىّ العسكري ووضعت القبة العسكرية على الرأس، واحتفظت في الجراب بالزاد، وتوكلت على الله ملتزما الصمت والحذر{وكل عيش بعد الشباب فضول }.
سرت تحت أجنحة أضواء الأقمار أحث الخطى لأجد المجاهدين في بيت المجاهد المختار البدوي كالليوث يزأرون، فانتشيت لما تمنطقت حزام الذخيرة وقضيت مع الأخوة لحظات ماتعة، تجندت في الولاية السادسة بالمنطقة الأولى بشلالة العذاورة، وكان يومئذ على رأس الولاية العقيد علي ملاح {سي الشريف} كان الاستقبال مشهودا، خلا بي الضابطان علي الزيوش وعمرالشايب وزوداني بتوجيهات عسكريّة صارمة، مع بزوغ فجر اليوم الموالي اقتفى اثري أخي الكبير عبد القادر، وقد جاء يطلبني فامتنعت وبإلحاح منه قابلته، طلب مني العودة إلى البيت لأن أمّه في حاجة إليه، قال: هو الأكبر والأجدر بالمهمة الجهاديّة، فقلت ولما لاأكون أنا الأصغر والأجدر أو نتجند معا، فلم يعد لدينا مانخسره، فوجودنا في البيت بلا طائل هذا مكاننا الصحيح، أصررت على قراري وإذا بي أجده إلى جانبي في كتيبة واحدة وهو رجل ذو قدر وفضول، وقد استشهد عليه الرحمة والرضوان في عام 1959 بنواحي سيدي دمد بعد مقاومة شرسة مع العدو الفرنسي، ولم يستسلم حتى سقط عليه المنزل بكامل جدرانه، واستشهد تحت الردم إثر قصف بالمدافع والطائرات، مازلنا نذكر المعركة و ذاك اليوم المشهود.. كان الشباب عهدئذ يلهثون وراء رغيف الخبز الهارب من يومياتهم البائسة، كانت البطالة تنهش الأكباد وتبدد أحلام الشباب، غرباء في ارض ابتلعها المعمرون وتخيروا لمن يخدمها من الجزائريين الأكثر بؤسا وحرمانا وصبرا على الأذى والاستبداد، كانوا لا يسمحون للشباب بالعمل حتى يروّضوهم على الطاعة العمياء ويطأطؤؤا رؤوسهم، ولامفر من الرضوخ أو الاستسلام للموت البطيء والشباب يومئذ اختاروا خلع لباس الذل والمسكنة، وسلكوا النهج السليم، نهج الجهاد في سبيل الله وتحرير الوطن{فعزة الموت خير من ذل الحياة }وكانت المنافسة على أشدها بين الأخ وأخيه كما حدث بينه وبين شقيقه عبد القادر، وبين الأب الشهيد المختار البدوي مع ابنه المجاهد مبارك، عندما خرجا الاثنان في عام,1956 ليظفر الأب بالشهادة عام 1958ويقع الابن أسيرا .. { السبع سبع وان كلت مخالبه * والكلب كلب وان كلل بالذهب }، لقد شكلت الثورة من الأسرة الواحدة مجاهدين وفدائيين ومسبلين وقواعد دعم وإسناد،كنت اعتز وأتفاخر بالبندقية على الكتف وأنا أرحل مع مجموعتي نقتحم أوكار العدو ونصنع المفاجأة،كنا متفرقين في فجاج الأرض نتنقل من مكان إلى آخر بخفة ورشاقة ونجوب الهضاب، ونقطع مسافات في السهوب على الأقدام والأرض مكشوفة، ونصل إلى جبال الصحاري والطريق إليها عارية، نصوم اليوم كله واليومين، ونأخذ حبات قمح نطهيها على الجمر {قلية}ونفتقد الماء ولا نشرب إلا غديرا إن وجد{ولوكان الفقر رجلا لقتلته..} كما يقال، كنا نقتفي أثر الخونة جيش بلونيس في الجنوب، ونلاحق جيش الشريف بن السعيد في الشمال، وفرنسا تجرهم للهث خلفها أينما ذهبت ليكونوا وقودا في معاركها ودروعا لأبنائها، ضرباتنا كانت موجعة للثلاثة، ومن منا لايخرج من المعركة إلا مضرجا بالدماء، نخرج وجراحاتنا نازفة، مثقلين بأتعاب ولذة النصر بادية على الوجوه المشرقة نورا بشوق الشهادة، ولا ننسحب حتى نواري أجساد الشهداء تربة المكان ونودعهم مكبرين مهللين معاهدين الله على المضي في تحرير وطننا.. فرنسا كانت قويّة هذه حقيقة، وجيشها مدرب، وسلاحها رفيع المستوى، ووسائلها ضخمة ومتطورة، وعملاؤها كثر، ونحن الأقوى إرادة والأشد بأسا وتصميميا، عقيدتنا قاهرة لاتهزم وذلكم هو سر نجاح الثورة وانتصارها، ذات يوم وفي إحدى معاركنا في جبال الصحاري، كنا متمركزين قرب زاوية الشيخ بختي {بلدية عين افقه }نتضوّر جوعا وعطشا، عندما داهمتنا قوات الاستعمار في إحدى الأمسيات الباردة وجرت بيننا مشادات عنيفة، انسحب إثرها العدو وترك جنوده قبعاتهم على الصخر للتمويه وإخلاء مواقعهم، هربا من الموت متسللين عبر الوادي، ولما اكتشفنا أمرهم قمنا بمطاردتهم كالذباب، ونحن نوقع في صفوفهم ذعرا وهلعا فيتركون بعض أدواتهم ويهربون.. ماهي أول معركة شاركت فيها؟ وكيف كانت معنوياتك وأنت تخرج سالما معافى ؟ في عام 1956شاركت في معركة الطويلة بتراب حد الصحاري، وكانت من المعارك الكبيرة التي خرجنا منها بأعجوبة ..قدمنا من شلاله العذاورة في كتيبة، ولما أشرقت شمس ذاك اليوم خيمنا بالمكان المسمى الطويلة، لكن جيش بلونيس كان على مقربة منا يترصد حركتنا، فمكثنا متخندقين إذ طبيعة الأرض العارية لاتسمح لنا بالحركة، مع غروب الشمس كان حتما علينا أن نخترق الطوق ونخرج، فجرت بيننا وبين جيش بلونيس معركة بينما كانت القوات الفرنسية تتابع المشهد من أبراجها، تابعنا السير وتوغلنا في سفوح جبال الصحاري، وكنا قد قضينا يومين بدون ماء ولا طعام، نزلنا عند رجل يدعى لحرش الوحيد، الذي بقي هناك فلم نجد عنده لاماء ولا طعاما، سلمناه مبلغا من المال وتوجه إلى حد الصحاري ليجلب لنا الطعام والماء وإذا به يبلغ عنا، في الصباح الباكر طوقتنا قوة هائلة وبدأ القصف بواسطة الطائرات والمروحيات، وقوافل الجيش الفرنسي تحاصرنا من جميع الجهات وتراقبنا عن بعد، استشهد في صفوفنا ثمانية جنود {8}، وكانت قد أعطيت لنا تعليمات صارمة بعدم الاقتراب من شجيرات السدرة ومن شجر البطم، والخطأ أن بعض الرفاق لم ينفذوا الأوامر فاستشهدوا، انسحبت قوات العدو وتسللنا عائدين إلى الشمال ..ماهي المعارك التي شاركت فيها؟ أتذكر خسائر العدو وخسائر جيش التحرير؟ حدثنا عن ذلك... المعارك التي شاركت فيها كثيرة، وإني اذكر بعضها، تلك التي تركت أثرها في النفوس، وبقيت محفورة في الذاكرة، وكان لها الصدى الكبير في أوساط المواطنين، بل جعلت العدو يحسب ألف حساب في حربه معنا..
1معركة حد الصحاري، ففي ذات السنة من شهر نوفمبر 1956 عدنا إلى منطقة حد الصحاري بقوات كبيرة، ونزلت كتائبنا بتراب بلدية سيدي عامر بمنطقة {بلعروق}، وجرت بيننا وبين العدو الفرنسي معركة ضارية، حيث تسلل من بيننا بعض الخونة من جيش بلونيس وهم أسرى عفونا عنهم، تسللوا إلى صفوف العدو وزودوه ببعض المعلومات فاقتفى أثرنا، بدأت المعركة من منتصف النهار إلى غروب الشمس وتراجع العدو، أصيب {يحي العايب} بجروح بالغة، وبعد أن وضعت المعركة أوزارها رحلنا سالكين طريقا عبر بلعروق وضواحي بنزوه، وصولا إلى الزبيريات بشمال شرق سيدي عيسى..
2معركة جبال ديره. في خريف عام 1957 هاجمنا مزرعة أحد المعمرين الفرنسيين يدعى {زوزاف} وأضرمنا النار في جميع ممتلكاته، بعد الاستيلاء على مافي المزرعة من أبقار وأغنام وخيول مع تنفيذ حكم الإعدام في وكيله، اقتفى أثرنا العدو الفرنسي في الصباح، وجرت معه معركة ابتداء من منتصف النهار حتى غروب الشمس، وانسحب العدو تحت جناح كثيف من الضباب..
.3 معارك وادي جنان في المكان المسمى وادي بن عباد ببلدية ديره ، جرت معركة بيننا وبين جيش بلونيس، بينما كانت القوات الفرنسة تتابع المعركة دون أن تتدخل، ودامت المشادات إلى غروب الشمس، استشهد منا ثلاثة جنود، وكانت المبادرة منا حيث باغتناهم وكانت ضرباتنا موجعة.... 4-وفي منطقة بضواحي سور الغزلان نهاية عام 1957تطوع جمع من المجاهدين طلبا للشهادة، وهذا لتوجيه ضربة موجعة للخيالة {القوم} قاد المعركة { جلول بن طويجني}، وهو رجل جريء مسؤول الكتيبة، وكانت الضربات بحق موجعة أحدثت إصابات كثيرة في صفوف العدو، وكانت لنا غنائم معتبرة وأسرى وقد تركوا موتاهم في العراء..
5 وفي ذات السنة جرت معركة حامية الوطيس في زملان بنواحي شلالة العذاورة والتي حضرها العقيد بن الشريف، حيث قضينا على كتيبة كاملة من جيش بلونيس، وأخذنا الكثير منهم أسرى..
06 معركة جبال بوقعدون 1957{ ببلدية سور الغزلان}كانت تلاحقنا مخابرات العدو كما يلاحق الظل صاحبه هم عملاء مجندون، واثر وشاية هاجمنا العدو ليلا مدججا بعتاد كبير وجرت المعركة وسط ظلام دامس، استشهد من صفوفنا اثنان، وفي الصباح استأنفت المعركة وكانت خسائر العدو معتبرة، انسحب العدو بعد أن أخذ القتلى من الفرنسيّين، وترك القتلى من الحركى في العراء، وقد شوهوا وجوههم بمادة كي يصعب التعرف عليهم وفعلوا ذلك مع شهدائنا، ومن يومها فان الحركة والعملاء أدركوا حقيقة فرنسا وعنصريّتها حتى مع الذين يحاربون في صفوفها دفاعا عنها...
7 شاركت في معركة وادي المالح، حيث كنا في مهمّة خاصة نجوب المنطقة بين السواقي وجواب، نرافق رجال الصاعقة بقيادة الشهيد لخضر العسكري ورفاقه، كان ينوي الهجوم على قوات فرنسية تقوم بتفتيش الدشرة وقمنا بإخلائها من السكان، إلا أن الجيش الفرنسي توزّعت قواته عبر السكنات المتناثرة في الروابي في عملية مداهمة وتفتيش، ولما عاد بقواته إلى الدشرة لأخذ قسط من الراحة وليتناول طعام الغداء،كان حضورنا سريعا، وإذا بنا نطوقهم من جميع الجهات، ونمطرهم بكم هائل من المتفجرات وبوابل من الرصاص، فلم ينج منهم أحد، وتلك المعركة نعدها من المعارك الهامة في حياتنا الجهادية، فقد كانت فتحا مبينا ونصرا مؤزرا، فما أخذناه من أسلحة وذخائر غطى حاجياتنا وأكثر، وصرنا نتغنى بانتصارنا :
{في الوادي المالح * سي لخضر بجنودو فارح }
08 - وفي شتاء عام 1957 توجهت قوافلنا إلى جبال حد الصحاري في طريقنا إلى المغرب مرورا بالسبخة فأولاد بنعليه، وكان جيشنا جرارا في ناحية الطويلة اكتشف العدو أربعة ضباط، فطوقهم، قاوموا ببسالة حتى استشهدوا تحت ردم المنزل الذي يأويهم، وفي المساء طوقتنا فرنسا بقوات لانظير لها بالقرب من زاوية الشيخ ألبختي، وانسحبت تحت ضرباتنا الموجعة بطريقة مضحكة أشرنا إليها، فقد ترك أفراد جيش العدو قبعاتهم على الصخور للتمويه بأنهم متخندقون، وانسحبوا متسللين عبر الأودية، واكتشفنا الأمر لما رأينا مركباتهم تتحرك بسرعة تثير الغبار تحت وابل من الرصاص، في اليوم الموالي كنا في الزاوية واختلطنا بالمواطنين كانوا في زيارة المقام ولم يتفطن لوجودنا العدو، أو أنه تعامى، وفي طريقنا وجدنا رجلا فقيرا سألناه ماء وطعاما فاعتذر فسلمناه مبلغا لجلب الطعام للجنو،د فرحل على حصان وأخذ معه قبعة أحد الجنود، وإذا به يقع أسيرا فيبلغ عنا، فجأة وبالقرب من السبخة في مساء بارد يطوقنا العدو بقوة رهيبة تحت غطاء طائراته، وكانت معركة غير متكافئة فقد أمطرتنا الطائرات بجحيم من القنابل الحارقة والنابالم فأوقعت فينا خسائر معتبر أزيد من ثلاثين شهيدا {30}وأثناء عودتنا سرنا تحت قيادة الروجي إلى ناحية الطويلة متوجهين إلى الشمال، بينما الشريف بن السعيد سلك بجيشه طريقا آخر، نزلنا في الطويلة وكان معنا أسير قرب مكان تجميع نبات الحلفة {المدني} خيمنا بالمكان ليلا، واستطاع الأسير أن يفر ويبلغ عنا، وإذا بقوات فرنسية تطوقنا بعرباتها وبالطائرات والمروحيات، فتقتل أزيد من{ 36} شهيدا وكانت مطاردة رهيبة حيث تشتتنا شذر مذر في الفيافي وتحت جناح الليل خرجنا نحمل جرحانا، وكنت مصابا بشظايا قنابل الطائرات مع هذا لم اذهب مع المصابين إلى المشفى، ولو ذهبت مع الجرحى لنزع سلاحي وصعب علي تعويضه، استطعنا خلال الليل أن نقطع المسافة على الأرجل، حيث وصلنا منطقة الزواهي ونزلنا عند الحاج الخيثر :
{فلولا المزعجات من الليالي *** لما ترك القطا طيب المنام}
في نهاية السنة استسلم الشريف بن السعيدي وانظم إلى فرنسا وأصبح يشكل عائقا آخر للثورة، اغتر كالذين من قبله، وركنوا إلى فرنسا وتعاملوا معها، وظنوا أنها تسعدهم وتشبع جشعهم، ولكن تبين لهم أن فرنسا تخفي وجها بشعا، وان مخابراتها تلعب بالنار، فمن ناصرها يحترق، حتى قال جنودها وقد يئسوا بأنهم يعيشون على بركان يفجره بواسل جيش التحرير متى شاؤوا، ولأجل ذاك كنا نتفجر فوق هامات الجبابر هنا وهناك،كنا نتشابك مع الخونة بصفة مستمرة نطارد فلولهم، ونقتل جنودهم كما يقتل الذباب، ولانسمح له بتحقيق مخططات العدو الفرنسي، وقد جعلت المخابرات من هؤلاء عملاء يحمونها ويتولون الدفاع عنها ولكن هيهات..هيهات..جبهة وجيش التحرير كانت لهم بالمرصاد..
09 معركة أولاد سيدي عامر { سيدي دمد } وفي عام 1958 خيمنا عند محمد بن ناجي وبن احمد الطويل، فجأة أقبلت قوات فرنسية يتقدمها جيش الشريف بن ألسعيدي، هذا الرجل الذي كنا نتوجس منه خيفة، وكان سلوكه يبعث الحيرة في النفوس، افتضح أمره وظهر عن حقيقته خائنا وعميلا، بدأت المعركة بيننا حيث تمكنا من إسقاط طائرة هوت في ناحية {قحازة}كما تم القضاء على الكثير من عساكر العدو وعملائه، وتركنا في ساحة المعركة أربعة شهداء {4} وجرحى كثرا، وبسقوط الطائرة تراجعت القوات الفرنسية مذعورة الأمر الذي سهل علينا عملية الانسحاب...
ولم تضع الخيل حوافرها حتى خططنا لكمين قرب {شنيقل}بشلاله العذاورة ،لقافلة عسكرية كانت قادمة من سور الغزلان متوجهة إلى شلالة العذاورة، تحصّنا لها قبيل المغرب وفجأة أطلقنا على مركباتهم النار بكثافة، وقضينا على أزيد من عشرين عسكريا {20} وخسارتنا تمثلت في شهيدين، واحد منهما أصيب برصاص صديقه
10 معركة الكاف لخضر 1958 ودامت يوما كاملا، وقد اشرف عليها قائد الكتيبة حميمي، وكان العقيد بن الشريف على رأس كتيبة قد انسحب قبل بدء المعركة ليتخندق في الجهة المقابلة، لذلك فان خسائرنا كانت كبيرة قدرت بعشرين شهيدا {20} وسقط في صفوف العدو الكثير من القتلى...
11 واذكر أن جيش بلونيس حاول ذات يوم تطويقنا بإعداد غفيرة في ظلمة الليل، وكنا أربعة تشابكنا معه، واستطعنا أن نخرج من الطوق، فقتل مواطنا وقام بحرق مطحنة حبوب، وفر جنوده هاربين لاعتقادهم أننا كثر، وكان جيش الشريف بن السعيدي يتربص بنا، وقد تشابكنا معه وقتل طفلا، وكنا يومئذ تحت قيادة المختار البدوي نرابط في منطقة { كاف افول }. كيف وقعت أسيرا ؟ متى حدث ذلك؟ وكيف حدث ؟ وهل كنت وحدك؟ حدثنا عن ذلك ؟
{أن يبلغ عليك قومك ، لا يبلغ عليك القمر}كما يقال ،كنت محافظ سياسيا وقتئذ أقوم بدورية فجأة وقعنا في كمين، استشهد رفيقي وألقي القبض على الثاني، وتمكنت من الخروج من المعركة سالما،كنت مريضا، رحل الجند وتركوني في منزل لإعادة الأنفاس، في الصباح الباكر طوقت فرنسا المكان بقوات هائلة، فقاومت وخرجت متسترا تحت أجنحة الظلام، وإذا بي أقع في أيديهم في مسلك بأحد الأودي كان ذلك يوم 27-12-1958 أخذوني مقيدا إلى قدور بوزيداني، فسألوه عني، قلت لايعرفني وأنا أعرف كل سكان الحي، أحضر إليهم متنكرا وبدليل يرشدني واستطعمهم فيطعموني بالقوة، أخذوني إلى شلالة العذاورة فالتقيت برفيقي الذي ألقي عليه القبض، وكان في وضعية سيئة أعطى ماعنده تحت سوط التعذيب، في هذا الأثناء حضر الشريف بن السعيدى وكان يعرفني فركز في أسئلته عن المكلفين بجمع الاشتراكات، وسألني عن رجل اسمه {خليف} فتبين لي أنه ابن عم الضابط {السعيد خليف} دافعت على السكان الذين لاحول لهم ولاقوة، وبقيت في السجن{ 13} ثلاث عشرة شهرا.
في شهر فيفري 1960 بلغتهم أخبار بأن أخي استشهد، ووالدتي طريحة الفراش، فراودني الشريف بن ألسعيدي أن يكفلني بشرط أن نوافق بالعمل معه جنديا قبلت بإيعاز من جيش التحرير، وبقيت تحت المراقبة الصارمة إلى أن جاءت الفرصة في أواخر جوان 1960 ، حيث كنت مع مجموعة من الجنود نحرس حاصدات المعمرين، تسللت ليلا عبر الأودية إلى أن التحقت بالرفاق في جيش التحرير وسلاحي معي،كان في انتظاري محمد ديرة مسؤول المنطقة عيسى المطر وش-عبد الرزاق تيطري- احمد الطيب- الزيتوني عيسى بونقاب-وانتظمت في الولاية الرابعة المنطقة الخامسة الناحية الأولى، وكان أجمل يوم في حياتي لما عدت إلى الرفاق.. استشهد معك مجاهدون مازلت تذكرهم..هل لك أن تحدثنا عن بعضهم؟
تنهد ورمى بكوب الشاي جانبا وقال: هم كثر.. واذكر من بينهم علي لزيوش.. قطاف.. سليمان القبايلي.. وهؤلاء رقباء ومرقدهم في حد الصحاري.. العزازي.. قاسي.. إلباس من السور.. عمار سي علال ..حميدو .جلول بن طويجين.. أحمد ديره.. عبد السلام..سي المختار بدوي.. رأيت عجائب وكرامات الشهداء..
ذات يوم في نواحي السبخة بضواحي حد الصحاري فقدنا أزيد من 35 شهيدا ، وفي مكان آخر كنا نبحث عن شهيد لم نهتدي إلى مكان استشهاده، وإذا بنا نشم رائحة عطر فبدأنا نتوجه ناحيتها في ظلمة الليل مسافة إلى أن وقفنا عليه، ولقد فتشنا عن زجاجة عطر في جيوبه فلم نعثر على شيء...ومرة سقط لنا شهيدان فقمنا بمواراة أجسادهما التراب، بعد أشهر جرفت السيول قبريهما وإذا بنا نجدهما كأنهما اللحظة استشهدا فأعدنا دفنهما... ولو حدثتكم عن الشهداء الأبرار لما استطعت، ولوقمت بوصف بشاعة جرائم فرنسا وحربها القذرة لعجزت، فهل بلغنا الرسالة للأجيال ؟.. فرنسا كانت تعطي لحمة لكلابها الخونة ليفرحوا بها ثم تشبعهم ضربا وإذلالا يستحقونه.. فعلت ذلك مع جيش بلونيس ومع الشريف بن ألسعيدي ومع آخرين..
إن قلوبنا كانت تنبض إحساسا، وجيش التحرير كان كالشجرة الباسقة تنتفض لتتطهر وترمي بالأوراق اليابسة وتحتفظ بشهي الثمار.... تابعتم المفاوضات مع فرنسا ، كيف استقبلتم خبر توقيف القتال 18-03- 1962 ؟و ماهو شعورك وأنت تنزل مع رفاقك من الجبل منتصرين؟ كيف كانت فرحتكم؟ كنا في حرب وكانت المعارك ماتزال قائمة، كان الأعداء والخونة وأصحاب المصالح يتربصون ، كان العدو يسعى للانتقام ولذلك اتخذنا الحطة والحذر، بلغنا بتوقيف القتال يوم الاثنين 19-03-1962بعد الظهر فالتزمنا الحذر، وتابعنا المشهد عن بعد، لكن العدو لم يلتزم، بعد أيام قمنا باحتفالات وسعينا إلى تنظيم استفتاء جولية - 1962 ، وبعد ذلك بدأنا نسترجع الثقة في النفس ونعبر عن أفراحنا ..
مشاعرك وأنت حر طليق ...
بعد الاستقلال بدأت المشاعر تتغير،كنت في وضع لاأعرف فيه من أكون ؟ لا بيت لا مأوى ولا أهل، الوالد توفي عام 1945والأم توفيت ,1961 والأخ استشهد1960 وجدت نفسي محروما من الدفء العائلي، تساءلت حينها، هل نبقى في الجيش أم أرحل ولكن إلى أين؟ ورحلت هذا اليوم مع قاسمي بلقاسم من البيرين إلى شلالة العذاورة {ومن جاور السعيد يسعد }، فحثني على الزواج وبناء بيت، ولما وصلنا شلاله العذاورة ليلا قصدنا الحاج احمد بن الشريف فاستقبلنا وجاء المهنؤون، فالتمست منه أن يزوجني ابنته فوافق للتو، وبشرط أن يدفع هو مهرها، من هنا بدأت استعيد الحياة المدنية، ولقد وقف المواطنون معنا، وساعدونا على التكيف التدريجي مع الحياة الجديدة. لك أن تقول ماتشاء...؟
فزع يضحك وفي ذات الوقت يتنهد.. إيه..للتاريخ أقول : إن التهافت على المسؤوليات كان ولا يزال عائقا أمام الشرفاء والمصلحين، وإن الشريف بن ألسعيدي غدر بمكتب الولاية السادسة، وعلى رأسهم العقيد علي ملاح {سي الشريف- الروجي- موسى- عاشور-} فقتلهم ببرودة دم، وقام بتفكيك الجيش، فجرد أفراده من السلاح، وقتل من قتل وشرد الباقي.. ولقد حاولت المنظمة في السنوات الأخيرة التعرف على المجاهدين الذين قتلهم ..وان عمليات مايسمى بحرب الولايات بعد الاستقلال ماهي إلا حرب مصالح ماكرة لاغير وذهب ضحيتها الأبرياء..وإن حرب التحرير حرب مقدسة، والعدو كان يسعى مع الخونة لإنهائها ولم يفلح ، انتصرنا بتوفيق من الله وبفضل الإيمان والشجاعة وطلب الشهادة في سبيل الله والوطن... ومهما قيل ويقال فانه ليس كل من يحمل البطاقة مجاهد، الشعب يعرف هذا والوطن فوق الجميع، فمتى ننهض لتحرير أنفسنا وذواتنا المحاصرة؟ البؤس ما يزال جاثما على صدورنا لأننا لانحسن الاستفادة من الحرية ومن عظمة الثورة المباركة، هذا دور المثقفين الذين هم عيون الأمة..فأين هم؟ المبادئ الحسنة تسبق دائما الأعمال والنوايا، فلابد أن نعمل وننظر إلى قادمات الأيام بمسؤوليّة، ونبتعد عن اليأس وجلد الذات، ماكان كان وقضي أمر كان مفعولا..
نحن أسّسنا دولة قويّة ولنا جيش قويّ وآمن منسجم متماسك، ولنا سيّادة ومنظومات تربويّة وعلمية وإعلاميّة وحضور قوي في المحافل الدوليّة.. فلماذا لانبتهج ونفتخر بهذه المنجزات؟
الخلاصة: لقد حاولنا في هذه الورقة المتواضعة جدا تقديم احد المجاهدين من شلالة العذاورة المشهود له بالإخلاص والوطنية إلى القراء، وما جاء في الحوار لا يشكل إلا النزر القليل من شخصيّة هذا البطل الفذة وحياته النضالية الحابلة بالحقائق والدروس الجهادية والوطنية، نتمنى أن تثير هذه الأوراق شهيّة المجاهدين والكتاب للبحث والإثراء وضبط الحقائق للمساهمة في كتابة تاريخ أمّتنا وتقديم صورة مضيئة لأبنائنا وللأجيال قاطبة..شكرا للسيد محمد طوطاح على استجابته لطلبنا وقد كان الحديث معه شيقا ..
وعلى شهدائنا الأبرار شآبيب الرحمة والرضوان...