القسم الثاني : المـــــرأة فـــــي واقـــــع المسلــــمين
وضعية المرأة في عصر الانحطاط
أعطى
الشيخ راشد الغنوشي تعريفا للانحطاط قال فيه أنه "سلبية الإنسان وعجزه
تجاه الطبيعة والمجتمع " واعتبر أن أجلى مظاهر هذه السلبية تظهر " في لون
التربية الأسرية التي تشكل المرأة عمودها الفقري " ص65.وجعل هذا الانحطاط
المرأة تنظر إلى نفسها على أنها مجرٌد كائن ضعيف متقبل للإهانة والاحتقار
والظلم . كما أن عصر الانحطاط قد ضيق على المرأة وعزلها عن هموم مجتمعها
الثقافية والسياسية وحولها إلى مجرد آلة إنجاب . فكانت التربية الأسرية في
ذلك العصر آلة منتجة للاستبداد في المسجد ، والمدرسة ، والمؤسسة
الاقتصادية والسياسية ، الأمر الذي يحتم علينا ـ إذا أردنا أي نهضة
اجتماعية لأمتنا ـ أن نستبقها بثورة تربوية على مستوى الأسرة تُحرر
المرأة من رواسب الانحطاط ، " لأن كل تحول حقيقي في صلب المجتمع ينبغي أن
يمر بالأسرة وبالتالي بالعنصر الرئيسي فيها : المرأة ." 66 كما أوضح
الشيخ في هذا الفصل أن حال المرأة الغربية المعاصرة لم يكن ـ من وجهة
نظره ـ أفضل بكثير من حال نظيرتها في العالم الإسلامي ، ذلك أن الثورة
التحررية التي تحققت في الغرب لم تقم على منظومة قيم تحمي المرأة من
استغلال المؤسسات الرأسمالية لجسدها وتحويلها إلى مجرد مستهلك لمنتجات
الزينة التي لا تعرف الاستقرار ، وبالتالي " تكريس الفكرة القديمة :
المرأة متاع أو المرأة جسد ". 67
ليس
عصر الانحطاط وحده هو السبب في الحالة اللاإنسانية التي تعيشها المرأة في
العالم الإسلامي بل إنه أمام ضعف المؤسسة الدينية التقليدية وعجزها في
الغالب عن القيام بثورة تصحيحية من منطلق الإسلام الصحيح ، تدخل
الاستعمار الفرنسي المتغلب في تونس لتغيير الواقع المتردي القائم من خلال
الاستحواذ على الأراضي الزراعية والدفع بسكان الريف إلى الهجرة نحو المدن
حيث يختلط الناس بعيدا عن علاقات النسب والقرابة والعشائرية ، هادفا من
وراء ذلك إلى تهديم و "كسر الطوق الخارجي الذي كان يحمي القيم الأخلاقية
في الريف ، قيم الحياء والشرف ..والعمل على نشر قيمه الثقافية عن طريق
المدارس ومؤسسات الإعلام ، وخاصة تلك القيم المتعلقة بالعلاقات بين
الجنسين " 67 . وبعد خروجه من البلاد راهن المستعمر على النظام البورقيبي
الذي كان مفتونا بالغرب ومؤمنا بان لحاقنا بركب حضارته لا يمكن أن يتحقق
إلا إذا سرنا على هديه في كل مظاهر حياتنا ، كما آمن هذا النظام بأن تحرير
المرأة على النمط الغربي هو الطريق الأسرع والوحيد للحاق بالحضارة
المتغلبة ، فانطلق بكل عنف يهدم أركان المجتمع القديم ، فجاءت مجلة
الأحوال الشخصية و"هوجم الدين في شعائره التعبدية (كالصيام )، وصودرت
مؤسساته (جامع الزيتونة ، الكتاتيب ، الأوقاف ..) وأزيحت لغته في التعليم
والإدارة ...ورُبطت البلاد ربطا محكما سياسيا واقتصاديا وثقافيا بالغرب "
69
وقد
جعل هذا التطرف البورقيبي في مسخ هوية الشعب التونسي الحركة الإسلامية
ترد على هذا النظام بحماس عنيف وقلة تبصر وتمعن سليم بحقيقة الدين
الإسلامي ، فاعترضت "بشدة على عمل المرأة خارج البيت واختلاطها بالرجل في
المدارس ، كما دافعت بشدة على تعدد الزوجات وكأن التعدد واجب ديني وليس
علاجا استثنائيا ، وشجعت المرأة على الاكتفاء بالحد الأدنى من التعليم
وتشددت في رفض كل علاقة بين الرجال والنساء عدا علاقة القرابة والزواج "
69
العمل النسائي في طريق التطور
بعد
أن تخلصت الحركة الإسلامية في تونس من التفكير النخبوي الانعزالي ، نشأت
أواخر السبعينات حركة نقد ذاتي شملت من ضمن ما شملت مراجعة موقف الحركة من
المرأة في عديد المسائل المتعلقة بها ، فنشأت على إثر ذلك رُؤى ومفاهيم
جديدة متعلقة بالمرأة ودورها في الحياة والمجتمع . وانتهت هذه المراجعة
إلى اعتبار المرأة شخص كامل مساوي للرجل في الإنسانية وتكاليف الشريعة
الأمر الذي يستوجب الحد من سلطة الرجل التعسفية عليها وتحريرها من" أوضاع
المهانة والصغار والاحتقار ودفعها إلى المستوى الإنساني مستوى الخلافة عن
الله شقيقة للرجل مساوية له" 73
عمل
المرأة : اعتبر الشيخ أن هذه القضية جديدة نتجت على إثر اتصال المسلمين
بالحضارة الغربية ، فالفقهاء السابقين لم يضعوا قيودا خاصة للمرأة تمنعها
من ممارسة النشاط الاقتصادي . فهذه الإشكالية الجديدة في العالم الإسلامي
في حاجة إذن إلى طرح جديد يأخذ بعين الاعتبار أن " مهمات المرأة الرئيسية
التي لا يمكن لأحد أن يعوضها فيها هي رعاية الطفولة وإعداد الأجيال
الجديدة ...فالأمومة ورعاية البيت وظيفتان اجتماعيتان من حق المرأة الأم
ربة البيت على المجتمع أن تتقاضى أجرا مناسبا على جهودها " 75 كما أوضح
الشيخ أن الدعوة الإسلامية في حاجة لوجود العنصر النسائي الإسلامي خاصة في
المؤسسات الصحية ، والتعليمية ، والاجتماعية ، الذي قد " يفوق في أهميته
حتى الضرورات الاقتصادية بالنسبة للحركة الإسلامية 76 فما أحوج مجتمعنا
إلى زعامات نسائية تقدمن للرأي العام فرصة ممتازة للمقارنة بين نموذج
التحرير الإسلامي والنماذج التغريبية . مطلوب من الرجال إعانة الذكيات
الزاكيات حتى يتبوأن مقامات القيادة على كل المستويات ." 77
تعليم
المرأة : ذكر الشيخ راشد الغنوشي أن هناك تصور بدائي شائع بين كثير من
المسلمين مفاده أن المرأة باعتبارها ستكون في آخر المطاف ربة بيت ، فهي
ليست في حاجة إلى درجات علمية عالية وبالتالي يكفيها مجرد القراءة
والكتابة . واعتبر الشيخ أن هذا " التصور البدائي" لا أساس له في الدين
ولا هو من المصلحة في شيء . فأي شكل من أشكال الحد من طموح الفتاة
المسلمة لبلوغها أقصى ما تسمح به طاقتها الذهنية هو " مخالفة صريحة
لتوجيهات الدين ، وحد من حرية الإنسان وتعطيل لطاقات المسلمين ومساهمة ولو
بغير شعور على استمرار ثقافة عصر الانحطاط التي رسخت في المرأة شعور الضعف
والخنوع وجعلتها تمارس عملها التربوي غير مزودة بأبسط المعارف العلمية "
78 . فلكي تكون الأم قادرة على إبلاغ رسالة دينها ، وفهم أبنائها وحسن
توجيههم ، فلا بد لها من أن تنال من العلوم أقصاها . فأغلب المتفوقين من
التلاميذ والطلبة " وراءهم أمهات متعلمات متفرغات لهن " 79
الاختلاط :
اعتبر الأستاذ راشد الغنوشي أن هذه القضية هي قضية حديثة "لم تعرفها كتب
الفقه القديمة "81 فقد جاءت ضمن ردود أفعال الحركة الإسلامية على تيارات
العصر الجارفة التي كانت البورقيبية أجلى مظاهرها . فالإسلام لم يمنع
اجتماع الرجال بالنساء بإطلاق ، بل منع الخلوة والاجتماع في أجواء من
الإغراء أو التماسٌ بين الأجساد حرصا منه على نقاء القلوب وسلامة الأعراض "
فلا عزل بين الرجال والنساء في صلاة أو في مجلس علم أو سوق أو ساحة جهاد
أو مجلس تشاور في أمور المسلمين ولا عزل بين الرجال والنساء ، فللمرأة أن
تستقبل ضيوف الأسرة وتحدثهم وتخدم ضيوف زوجها وكل ذلك في إطار آداب
الإسلام وتعاليمه " 82 فتطهير العلاقات بين الجنسين وتفعيل القيم
الإسلامية لا يكون بـ "تكثيف الحجب وتحويل البيوت إلى سجون للنساء والحكم
عليهن جميعا بما حُكم به على اللاتي أتين الفاحشة " بل يكون بالتوعية
والتربية "وإشاعة أجواء الطهر والعفة والتعاون على الخير في العلاقات
البشرية "82 فالاتجاه العام والغالب للعلاقات البشرية المعاصرة
والمستقبلية برأيه يتجه بغلبة نحو الاختلاط والتواصل بين البشر .فعلى
العاملين في الساحة الإسلامية فهم اتجاهات التطور وسنن الاجتماع البشري
والعمل على تسخيرها والاستفادة منها بدل مُصادمتها والاكتفاء بردود
الأفعال الحماسية والمتسرعة عليها . وبما أن الإسلام قد جعل من المرأة
"إنسانا يعيش لقضية ويلتزم برسالة ويملك نفسه من التردي ويشارك في
الاستمتاع أخذا وعطاء" 84 فلا بد لها من الاختلاط بشروطه الإسلامية .
فالمرأة مخاطبة في هذا الدين اعتقادا وعملا على قدر المساواة مع الرجل .
كما أن لها طاقة دفع هائلة للزوج والأب والأخ والأبناء ، إما إلى "معالي
الأمور وعزائمها ..وإما إلى المنحدرات والسفاسف كما هو الحال الغالب في
عالمنا اليوم " 85 .ونظرا لحساسية وأهمية دور المرأة في التحول الاجتماعي
والحضاري تتأتى ضرورة توسيع آفاقها المعرفية وفسح المجال لها للتعبير عن
مواهبها في كل النشاطات دون حصرها في مجالات ضيقة فليس صحيحا ما يشاع على
أن المرأة كائن ضعيف لا يستطيع تحمل تبعات الدعوة وثباتها على المحن . فمن
ذا الذي ينسى دور خديجة ، وأسماء ، وسعاد الفاتح ، وزينب الغزالي ،
وغيرهن في التاريخ الإسلامي والإنساني في تثبيت الرجال ونصرة للحق والعدل .
فلا قيام لأي دعوة " إلا بشقيها وإلا ظلت تعرج حتى تهوي " .87
حوار حول المرأة في ثانوية للبنات في تونس
قضية المرأة
: عادة ما يُطرح موضوع المرأة في الإسلام بشكل خاطئ ـ يقول الشيخ ـ
لأنه عادة ما لا يُوضع في مكانه المناسب من الهيكل العام الذي انتُزع منه
وهو الإسلام الذي يرفض بطبعه أن يكون أجزاء مبعثرة "نافرة ناشزة " .
فقضية المرأة في رأيه لا بد أن تُطرح في إطار الإسلام الشمولي الذي لا
يمكن له أن يثمر ويعمل بشكل سليم إلا إذا لامس كل أبعاد الحياة في إطار
شموليته المتحركة . فأي طرح لقضية من قضايا الإسلام بما في ذلك قضية
المرأة في غير هذا الإطار الشمولي للإسلام هو طرح عقيم يؤدي بالضرورة إلى
نتائج عقيمة .
ففي
مسألة الزي الإسلامي مثلا ، لا يجب أن يُطرح هذا الموضوع بمعزل عن رُؤية
المسلم العامة للكون والحياة والمجتمع ."فالإسلام لا يبدأ عمله مع المرأة
بتطويل الزي أو تقصيره ولكن بتغيير نظرتها إلى الحياة والغاية منها حتى
إذا ما أصبحت تنظر إلى الحياة ليس باعتبارها سباقا مجنونا على اللذائذ
والمتع الرخيصة ، بل على أنها مجا ل لترقي الإنسان من المستوى البهيمي إلى
المستوى الإنساني ..حتى إذا ما استقرت هذه النظرة في نفس المرأة ظهر
واضحا في سلوكها وعلاقتها مع الناس وفي مظهرها الخارجي ، وكان موقفها من
الأوامر التي تتلوها موقف المؤمنين الصادقين "سمعنا وأطعنا " 94 . كما يرى
الشيخ أن "ستر المرأة مفاتنها يُؤجج الرغبة فيها ولا يُنقصها ، ويفسح
المجال واسعا أمام نمو الإنسان الذي في المرأة ، أي قوى العقل والروح..
بينما التعري يُضعف هذا الشوق إلى أن يقتله " 94 . كما أن الزي المحتشم في
نظره هو" أكثر مسايرة للحضارة والتقدم .. بينما تكون الملابس التي تكشف
معظم أجزاء الجسم معبرة عن اتجاه رجعي وانتكاسة تصيب المدنية وتعود
بالإنسان القهقرى إلى العهد البدائي " . 96
تعدد الزوجات في الإسلام
: اعتبر الشيخ إن الضعف الغالب على المرأة إزاء الرجل وحاجتها إليه ليس
ضعفا فطريا فيها وإنما هو نتيجة للمناهج والتوجيهات التربوية التي
تتلقاها المرأة في الأسرة والمجتمع ."فلو غيرنا هذه الوضعية الاجتماعية
وربينا المرأة على تحمل مسؤوليتها وحدها دون الاتكال على الرجل لتغير هذا
الشعور بالضعف والتبعية إلى حد كبير إلى شعور بالتفوق والاستقلال ".97
فالمناهج والأساليب التربوية الناجحة هي تلك التي تبني العلاقة بين الرجل
والمرأة على أساس التكامل والتراحم والانسجام لا على أساس الغلبة والقهر
والتسلط . كما أوضح الأستاذ راشد الغنوشي أن تعدد الزوجات في المجتمع
الإسلامي هو حل استثنائي لحفظ عفة وتوازن المجتمع وعدم انهياره أخلاقيا في
الحالات الاستثنائية كالحروب مثلا التي تذهب عادة بالعديد من الشباب
الذين هم في سن الزواج . فتعدد الزوجات في المجتمع الإسلامي هو حل
استثنائي لحالة استثنائية طارئة ويبقى الزواج بواحدة هو الغالب في أحوال
المجتمع العادية التي تتعادل فيها عادة نسبة الرجال والنساء تقريبا .
التمزق الأسري في تونس ومجلة الأحوال الشخصية
هذا
الفصل هو محاولة من الشيخ راشد الغنوشي لتشخيص المجتمع التونسي عموما
والأسباب الحقيقية الكامنة وراء تفاقم ظاهرة الطلاق فيه . فقبل صدور مجلة
الأحوال الشخصية ـ يقول الشيخ ـ كان يُعتقد أن الأسباب الرئيسية لهذه
الظاهرة هي : تعدد الزوجات ، وجعل العصمة الزوجية بيد الرجل ، وعدم تغريمه
لفائدة الزوجة . وكان يُعتقد أنه بالقضاء على هذه الأسباب يتم التخفيض
إلى حد كبير من نسب الطلاق ، لكن العكس هو الذي حصل . فبعد منع المشرع
التونسي لتعدد الزوجات وانتزاع سلطة الطلاق من يد الزوج وإيكالها إلى
القاضي واعتماد تضييقات قانونية مشددة للتقليل من نسب الطلاق لكن ازدياد
هذه النسب بشكل مهول رغم هذه التشريعات التضييقية يقودنا بالضرورة ـ يقول
الشيخ ـ للبحث عن أسباب أخرى عميقة تفسر هذه الظاهرة .
فالأستاذ
راشد الغنوشي يرى إن نظرة طرفي الزواج لهذا الأخير هي المحدد الأساسي
لتواصل أو انقطاع الرابطة الزوجية . فهذه الرابطة برأيه لا يجب أن يُنظر
إليها على أنها مجرد وظيفة جنسية أو اقتصادية بل على أنها رابطة مُقدسة
أوجدها الدين وعلى أساسه قامت واستمرت ، "والتجربة تثبت أنه كلما اهتز
الأساس الديني في مجتمع كلما اهتزت هذه المؤسسة واتجهت في طريق الزوال
بزواله " .100
مجلة الأحوال الشخصية
اعتبر
الشيخ راشد الغنوشي أن مجلة الأحوال الشخصية هي " مفخرة النظام البورقيبي
وإحدى القوائم الأساسية له " 101 كما اعتبر الشيخ أن هذه المجلة قد
ساهمت إلى حد ما في تحرير المرأة من العديد من الأغلال والمظالم ، لكنه
أردف موقفه هذا منها بعدة تعليقات أخرى جاءت كما يلي :
ـ
المكاسب التي حققتها المرأة في تونس ليست هي ثمرة لصدور مجلة الأحوال
الشخصية لوحدها كما تدعي البورقيبية ذلك ، بل هي ثمرة طبيعية " لحركة
الإصلاح الديني في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين .
ـ
التغييرات التي أدخلها النظام البورقيبي على بنية المجتمع التونسي ـ
وكانت مجلة الأحوال الشخصية معبرة عنها ـ لم تكن " ثمرة تأمل موضوعي
لواقعنا متحررا من ضغوط الغرب والانبهار بمنطقه للمدنية ..لذلك غلبت على
هذه الحركة للتحرير النسوي طابع التقليد الأعمى والشكلانية الفجة " 103
ـ
الخطر الحقيقي لا يكمن في بعض نصوص المجلة الشخصية بل فيما صاحبها من "
موجة التغريب والثورة العمياء ضد كل تراثنا الفكري والثقافي والتشريعي
والرغبة في تقويض البناء الاجتماعي الموروث لاكتساب بطولة التجديد ..وفي
مثل هذا الجو الثقافي والنفسي تأتي جملة من التشريعات لترويج ما بقي من
عقبات قانونية في طريق الفساد " 104 كالزنا الذي لم يعد جريمة في حق
المجتمع ، وإشاعة وسائل منع الحمل ، وإباحة الإجهاض ( 000 59 سنة 1980 )
وغيرها .
ـ
إن الحرية الحقيقية للمرأة في رأي الشيخ هي انعتاقها من مجرد كونها جسد
يُشتهى أو دمية تُعرض ، بمعنى تحررها من كل أشكال العبودية المسلطة عليها
واكتشاف الكائن الإنساني فيها والعيش وفق مقتضياته ، "وهي مقتضيات تتجاوز
الخصوصيات الجنسية ذكرية أو أنثوية ..فالإنسان إنسان قبل أن يكون ذكرا أو
أنثى" 106 . وانطلاقا من هذا المفهو لحرية المرأة ينته الشيخ إلى نتيجة
مفادها أن المرأة البورقيبية لم تتحرر من المؤسسات الرأسمالية الخارجية
والداخلية التي اعتبرت المرأة مجرد جسد للعرض وتعاملت معها " كسلعة في سوق
الشغل والإعلام والسياحة ..لاستجلاب الزبائن والترفيه على السواح وسوقا
لا تنضب للاستهلاك اللاهث " 106 . فالمرأة التونسية كما الرجل لا يزالا
في رأي الكاتب ضحية للبورقيبية وامتداداتها .
ـ
ليس حصول المرأة التونسية على ثلاثة أرباع مواطن الشغل أثناء المخطط
الرابع ( 73 إلى 76 ) حبا فيها بل إن ذلك اندرج ضمن مخطط المؤسسات
الرأسمالية العالمية ( الوكالة الأمريكية للتنمية ، البنك العالمي ،
الصندوق الأممي للأنشطة السكانية وغيرها ..) لاستغلال وتدمير بناء المجتمع
التونسي وغيره من مجتمعات العالم الثالث . فتشغيل المرأة بهذه النسبة يزيد
من أرباح المؤسسات الرأسمالية لأن أجور النساء تكون عادة أقل من أجور
الرجال حتى في الدول الرأسمالية ، كما أن تشغيل أكبر عدد ممكن من النساء
يُجبرهن على تأجيل وتحديد الولادات الأمر الذي يضمن ويُسهل لهذه المؤسسات
الإمبريالية العالمية التحكم في مجتمعات العالم الثالث عموما وتوجيهها
وفق ما يتناغم مع مصالحها ومخططاتها الاستغلالية . لذلك " يحق للرأسمالية
أن تعتز بأنها غيرت خريطة المجتمع التونسي من خلال تغييرها لخريطة العائلة
خاصة " 110 .
ـ
لم تكن مجلة الأحوال الشخصية ثمرة تطور ذاتي وطبيعي للمجتمع التونسي
واستجابة لمطالبه الوطنية بل جاءت ضمن الأجواء التغريبية لمجتمعنا "
للقضاء على ذاتيته العربية الإسلامية ، وكانت صفقة الاستقلال جزءا من تلك
الحملة " 111 . فحتى العديد من العلمانيين قد اعترضوا على بعض بنود هذه
المجلة ( تعديل 1982 القاضي بتمليك المطلقة بيت الزوجية وتمتيعها بغرامة
عمرية مثلا ) فكان هذا التعديل عقبة إضافية لصرف الرجال عن الزواج .
فالمرأة لم تحقق شيئا كبيرا من وراء هذه المجلة ـ يقول الكاتب ـ لأن رهان
النظام البورقيبي على المرأة " لم يكن رهانا حضاريا وإنما كان رهانا
رأسماليا سياسيا " . 111
حق المرأة بل واجبها في المشاركة العامة في الحياة السياسية
انطلق
الشيخ راشد الغنوشي لمعالجة موضوع مشاركة المرأة المسلمة في الحياة
العامة من مُسَلٌـمة مفادها أن" علماء الأصول والتفسير والفقه متفقون أن
خطاب التكليف يستوي فيه الرجال والنساء .. فالخطاب إلى المؤمنين أو
المسلمين أو الناس ـ وسائر الصيغ التكليفية العامة يشمل الرجال والنساء
على حد سواء ..فالعموم والمساواة هي الأصل عدا ما تعلق به خصوص للرجال أو
النساء " 112 / 113 . ولتأصيل مشاركة المرأة في الحياة العامة في
المجتمع يسرد الكاتب عديد الأمثلة من عهد النبوة والخلافة الراشدة
لمشاركة المرأة إلى جانب أخيها الرجل في الدعوة وتثبيت الدولة ، فكانت
المرأة هي أول من استشهد ، كما شهدت اجتماع العقبة الثانية ، وشهدت كل
وقائع الإسلام ،وأشارت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ،
ونقلت إلى الأمة علوم الإسلام ، وهاجرت ، واضطُهدت ، وولٌيت قضاء الحسبة ،
واستُشيرت في تولي الخلفاء . ويتساءل الأستاذ راشد الغنوشي بعد سرده
لهذه الأمثلة لمشاركة المرأة في كل أوجه الحياة العامة للمجتمع الإسلامي
الناشئ قائلا : "وإذا كان كل ذلك لا يُعد مشاركة سياسية ، فماذا عساها أن
تكون المشاركة السياسية ؟ 116 ..أليس مخجلا أن يستمر صدور الفتاوي في بعض
أقطار الإسلام عن بعض أهله بتحريم مشاركة المرأة في العمل السياسي ، وحتى
قيادة جَمَلها ، بينما المرأة الإسرائيلية تغير على مدننا ومساجدنا ؟ " .
118
وفيما
يتعلق بالمطلب الثاني أي مشاركة المرأة المسلمة ليس كناخبة بل كمرشحة
وكيلة عن غيرها ، فقد حاول الأستاذ راشد الغنوشي دحض الأسس التي بنى عليها
الشيخ المودودي موقفه لإقصاء المرأة عن المشاركة في الحياة العامة
كناخبة وكمرشحة . فقد اعتبر الشيخ المودودي أن " الرجولة شرط في عضوية
مجلس الشورى فضلا عن الترشيح لرئاسة الدولة ..وأن السياسة والحكم خارجان عن
دائرة أعمال المرأة " 121 مستدلا على ذلك بآية القوامة عدد34 من سورة
النساء وحديث " لن يُفلح قوم ولوا أمرهم امرأة "الذي رواه أبو بكرة .
بدأ
الأستاذ راشد الغنوشي نقده لهذا الموقف بالقول أن قوامية الرجال على
النساء المذكورة في الآية إنما قُررت فقط في الحياة الزوجية . فقوله تعالى
" وبما أنفقوا من أموالهم " يدلنا على أن القوامة المذكورة في الآية
تنحصر في الأسرة دون غيرها .." أما ولاية بعض النساء على بعض الرجال خارج
نطاق الأسرة فلم يرد ما يمنعه " 119 وما دامت المرأة قادرة على أن تنصح
وتُشير على غيرها بما تراه صوابا في إطار مبدإ الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر " فلا يوجد دليل شرعي يمنع عضويتها في مجلس يقوم بهذه المهمة ."
120 كما اعتبر الشيخ أن عدم دخول المرأة في مجالس الشورى في العصور
الإسلامية السابقة لا يقوم دليلا شرعيا على المنع لأن " الشورى لم تُنظم
تنظيما دقيقا لا للرجال ولا للنساء "120 فالقوامة إذا كان معناها الرئاسة
بإطلاق ـ كما يرى الشيخ المودودي ـ تكون النتيجة منع المرأة من الرئاسة
أبدا حتى إذا كانت دار رعاية ، أو مستشفى، أو متجر ، أو مصنع ، أو مدرسة
"وهو شطط لم يذهب إليه أحد من علماء الإسلام القدامى أو المحدثين " 123
فحتى سيد قطب رغم منزعه السلفي في التفسيرـ يقول الشيخ ـ قد اعتبر أن سياق
آية القوامة لا يعني الرئاسة العامة للرجال على النساء في كل شأن ، بل إن
سياقها هو "حديث عن الخلافات الزوجية مما يقضي أن الرئاسة الواردة في
الآية لا تتجاوز نطاق الأسرة ". 123
أما
فيما يتعلق بالحديث النبوي المروي عن أبي بكرة فقد ذهب الشيخ راشد
الغنوشي إلى أن هذا الحديث قد ورد بخصوص حادثة معينة وهي أن قوم كسرى فارس
قد ولوا ابنته مكانه بعد موته ، فقال صلى الله عليه وسلم ذلك القول
تعبيرا عن سخطه على قتلهم رسوله إليهم . لذلك لا يصلح هذا الحديث "أن يكون
مرجعا في مادة القانون الدستوري ، خاصة وأن علماء الأصول لم يتفقوا على أن
العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب . فما كان لفظه عامٌا لا يعني أن حكمه
عامٌا أيضا ، الأمر الذي يجعل الحديث لا ينهض حجة قاطعة فضلا عن ظنٌيته
من جهة السند " 122 . فالصحابي أبو بكرة قد حُدٌ في القذف الأمر الذي
يجعل هذا الحديث لا يصلح لأن يكون أساسا في الأحكام الشرعية وخاصة منها ما
تعلق بنظام الدولة الذي لا يجب أن يُبنى على أساس ظنيٌ مهما كانت درجة
الظنية ضئيلة . "والنتيجة أنه ليس هناك في الإسلام ما يقطع بمنع المرأة من
الولايات العامة قضاء أو إمارة " . 123
وفي
الإشكال الأخير المتعلق بحق المرأة في الولايات العامة ومنها رئاسة
الدولة فقد ذكر الشيخ راشد الغنوشي عدة أسماء من الأئمة السابقين كالطبري
، وأبو حنيفة ، وابن حزم الأندلسي ، الذين أجازوا للمرأة تولي القضاء وهو
من الولايات العامة التي تقاس شروط الإمامة عليها . كما ذكر العديد من
أسماء الأئمة المحدثين كالشيخ الأزهري عبد الله دراز الذي أجاز للمرأة
النشاط الاجتماعي والسياسي بمختلف أنواعه وأشكاله ، والشيخ محمد الغزالي ،
والشيخ يوسف القرضاوي ، الذان يريان أنه " ليس في التصور الإسلامي من
حاجز ديني حقيقي يُحظر على المرأة تبوٌأ أي منصب في الدولة الإسلامية
والمجتمع الإسلامي قد تأهلت له بما في ذلك رئاسة الدولة ". 124
في هذا القسم الثاني من كتاب المرأة بين القرآن وواقع المسلمين أكد الشيخ راشد الغنوشي على ما يلي :
ـ
ليس عصر الانحطاط وحده هو المسؤول عما تُعانيه المرأة من تهميش على عدة
مستويات بل إن الاستعمار الغربي والأنظمة الاستبدادية المُلحقة به في
بلداننا قد ساهمت أيضا في الإبقاء على حالة التهميش هذه .
ـ
أن تطهير العلاقات بين الجنسين وتفعيل القيم الإسلامية في الواقع لا يكون
بـ " تكثيف الحُجب وتحويل البيوت إلى سجون للنساء " بل يكون بالتوعية
وبثورة تربوية على مستوى الأسرة تُحرر المرأة من رواسب الانحطاط وتفتح
أمامها سُبل تصريف طاقاتها ، ذلك أن كل تحول حقيقي في صلب المجتمع" ينبغي
أن يمر بالأسرة وبالتالي بالعنصر الرئيسي فيها : المرأة " فهذه الأخيرة
لها طاقة هائلة للدفع نحو معالم الطًهر والعفة والتعاون على الخير في
العلاقات البشرية إذا أحسنا تأهيلها وفتحنا أمامها أبواب العلم والمعرفة .
ـ
ليس هناك في الإسلام ما يقطع بمنع المرأة من المشاركة العامة في الحياة
السياسية كناخبة وكمرشحة وكيلة عن غيرها بما في ذلك رئاسة الدولة . وأن
هذه المشاركة هي شرط من شروط نهضة الأمة وبالتالي لا بد من إزالة كل
العوائق والعراقيل التي تمنعها من هذه المشاركة .
بعض الملاحطات حول الكتاب :
ـ
يقول الشيخ راشد الغنوشي في الصفحة 119 من الكتاب وفي هامش بنفس الصفحة
أن " عدد النساء اللاتي يُرشحن للمجلس النيابي سيظل محدودا ..وقل جدا أن
وصل إلى الربع ..وستظل الأكثرية الساحقة للرجال .. ذلك أن طبيعة توزيع
الوظائف في المجتمع إنما اقتضته الفطرة " . وهنا أود أن أُلفت نظر
الشيخ إلى حالة جديدة حدثت بعد صدور هذا الكتاب ، وهي أن عدد النساء في
البرلمان الروندي قد فاق عدد الرجال في دورتين برلمانيتين متتاليتين ،
وهذه الحالة وإن كانت شاذة وفريدة من نوعها في كل دول العالم إلا أنها
تُنبهنا إلى إمكانية توسعها في بلدان أخرى إذا فُسح المجال أمام المرأة
لإثبات قدراتها وتغيرت رُؤية المجتمع لمسألة توزيع الأدوار فيه بين الرجال
والنساء .
ـ
لئن شرج الأستاذ راشد الغنوشي جيدا الأطوار التي جاءت فيها مجلة الأحوال
الشخصية إلا أن موقفه منها بدا لي غير مستقر . فهو من ناحية يقول في
الصفحة 102 " إنه من المؤكد أن مجلة الأحوال الشخصية قد دفعت عن المرأة
هذه المظالم ، وحررت العقول شيئا ما من آثار تلك النظرة الدونية . كما حررت
المرأة ذاتها من جوانب احتقار الذات واستنقاصها ، وأعادت إليها ثقتها
بنفسها كإنسان مسؤول مسؤولية كاملة أو جزئية عن مصيره " . ويقول من ناحية
أخرى في الصفحة 111 من الكتاب " إن المرأة كما تقول السيدة زينت الهمامي
لم تحقق شيئا كبيرا من وراء مجلة الأحوال الشخصية ".
ـ
بدا لي من خلال هذا الكتاب أن إيمان الشيخ راشد الغنوشي بالحرية كقيمة
إسلامية وإنسانية عليا من حق كل إنسان أن يتمتع بها ، وانتصاره للمرأة
ككائنة كاملة الإنسانية وقادرة على الفعل الإيجابي في الكون والمجتمع أشد
من حذره للإقدام على مُصادمة ظاهر بعض النصوص الشرعية ومخالفة بعض ما
هو شبه مُجمع عليه من تصورات في ثقافتنا العربية الإسلامية .
ـ
وهذا الكتاب يبقى في تقديري زهرة تُضاف إلى حقل المكتبة الإسلامية
والإنسانية تُطرد بعطرها الطيب رائحة عصور الانحطاط ونتانة مؤسسات
الاستغلال والاستبداد ، وتعطي بألوانها الزاهية آمالا واعدة في التحرر
الكامل للمرأة من الأغلال والمظالم التي سُلطت عليها قرونا طويلة .
إلى لقاء آخر مع كتاب آخر إن شاء الله .