بسم الله الرحمن الرحيم
طلب الهداية
الهداية بيد الله سبحانه وتعالى فهو الذي يهدي من يشاء ويمنع الهداية عن من يشاء؛ لذا يجب طلب الهداية منه سبحانه وتعالى, وقد وردت آيات كثيرة تدل على ذلك منها: قول الله تعالى:﴿ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً ﴾[الكهف: من الآية17] , وقال تعالى﴿ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾[الأعراف:178]
وقال تعالى ﴿ قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ﴾[طـه:50] , وقال تعالى ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ﴾[البقرة:272] , وقال تعالى ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنعام:125]
وقال تعالى﴿وَلا تُؤْمِنُوا إِلا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [آل عمران:73], وقال تعالى﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ [الزمر:23]
وقال في بيان هدايته الإنسان وإرشاده ودلالته على ما يصلحه تعالى﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ﴾ [الانسان:3] ,وقال تعالى﴿ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾[الشمس:8] , وقال تعالى﴿ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ﴾[البلد:10] , قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [يونس:25]
وقد وردت آيات أخرى كثيرة تدل المسلم على أن يكثر من الدعاء بطلب الهداية والثبات عليها منها:
1/ في الدنيا حسنة وفي الآخرة ﴿ ربنا ءَاتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [البقرة:201]
2/ لا تزغ قلوبنا: ﴿ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَدُنْـكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾ [آل عمران:8]
3/ واجعلنا مسلمين لك: ﴿وإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ *رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا اُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [البقرة:127-129]
4/ وهيئ لنا من أمرنا رشداً: ﴿ إِذْ أَوَى الْفِتْيَــةُ إِلَى الْكَهْـفِ فَقَالُوا رَبَّنَــآ ءَاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً ﴾ [الكهف:10]
5/ أتمم لنا نورنا: ﴿ رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَآ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيــرٌ ﴾ [التحريم:8]
6/ أدخلني مدخل صدق: ﴿ وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِي مِن لَدُنكَ سُلْطَاناً نَصِيراً ﴾ [الإسراء: 80]
7/ رب اشرح لي صدري: فهذا موسى عليه السلام يدعو ويطلب من ربه الهداية فيقول: ﴿ قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ﴾ [طه:25]
8/ رب زدني علماً: وهذا محمد صلى الله عليه وسلم يأمره ربه يسأل الزيادة في العلم والنور ليهتدى به من الظلمات قال تعالى: ﴿ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَبِّ زِدْنِي عِلْماً ﴾ [طه:114].
والنبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر في دعائه من طلب الهداية فعن عثمان بن أبي العاص وامرأة من قيس رضي الله عنهما أنهما سمعا النبي صلى الله عليه وسلم ـ قال أحدهما ـ سمعته يقول: "اللهم اغفر لي ذنبي خطئي وعمدي " وقال الآخر:سمعته يقول: "اللهم إني أستهديك لأرشد أمري وأعوذ بك من شر نفسي "(1).
كانت قريش تعظم حصين بن عبيد بن خلف الخزاعي، فجاءوا له، وقالوا له : كلم لنا هذا الرجل، فإنه يذكر آلهتنا، ويسبهم، فجاءوا معه حتى جلسوا قريبا من باب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال الرسول صلى الله عليه وسلم - لمن عنده أوسعوا للحصين.
فقال الحصين: ما هذا الذي بلغنا عنك، إنك تشتم آلهتنا، وتذكرهم، وقد كان أبوك حصينة وخيرا؟؟؟ فقال - صلى الله عليه وسلم - : " يا حصين إن أبي وأباك في النار، يا حصين كم تعبد من إله".
قال الحصين : سبعة في الأرض وواحد في السماء.
قال - صلى الله عليه وسلم - : فإذا أصابك الضر من تدعو ؟
قال - صلى الله عليه وسلم - : الذي في السماء.
قال - صلى الله عليه وسلم - : فإذا هلك المال من تدعو ؟
قال الحصين : الذي في السماء.
قال - صلى الله عليه وسلم - : " فيستجيب لك وحده، وتشركهم معه، أرضيته في الشكر، أم تخاف أن يغلب عليك " ؟
قال الحصين : ولا واحدة من هاتين، قال : وعلمت أني لم اكلم مثله.
قال - صلى الله عليه وسلم - : " يا حصين اسلم تسلم ".
قال الحصين : إن لي قوما وعشيرة، فماذا أقول ؟
قال - صلى الله عليه وسلم - : " قل اللهم إني أستهديك لأرشد أمري، وزدني علماً ينفعني"
فقالها حصين، ولم يقم حتى اسلم.
فقام إليه عمران ابنه فقبل رأسه ويديه ورجليه، فلما رأى ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - بكى، وقال : " بكيت لما صنع عمران، دخل حصين وهو كافر، فلم يقم إليه عمران، ولم يلتفت ناحيته، فلما أسلم قضى حقه، فدخلني من ذلك الرقة ".
فلما أراد حصين أن يخرج قال - صلى الله عليه وسلم - لأصاحبه :" قوموا فشيعوه إلى منزله"، فلما خرج من سدة الباب، رأته قريش، فقالوا: صبأ، تفرقوا عنه(2).
وعن سعد رضي الله عنه قال جاء أعرابي إلى رسول الله فقال: علمني كلاما أقوله0 قال: " قل لا إله إلا الله وحده لا شريك، الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً, سبحان الله رب العالمين، لا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم" قال:فهؤلاء لربي فما لي؟ قال: " قل:اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني "(3).
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قل اللهم اهدني وسددني واذكر بالهدى هدايتك الطريق والسداد سداد "(4).
وهكذا على العبد أن يطلب الهداية من ربه لأنه محتاج إليها في كل أحواله ولو كان أتقى الناس ولو كان أعلم الناس ، فهو في حاجة إليها حتى يموت ولهذا علمنا سبحانه في الفاتحة أن نقول في كل ركعة﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ....﴾ [ الفاتحة: 6], في اليوم والليلة سبع عشرة مرة في الفريضة غير النافلة.
وكان النبي وهو أعلم الناس وأكمل الناس هدايةً عليه الصلاة والسلام, ومع هذا يقول في استفتاحه في الصلاة : "اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراطك المستقيم"(5) يطلب من ربه الهداية وهو سيد ولد آدم قد هداه الله وأعطاه كل خير؛ لذا فإننا كلنا في حاجة إلى الهداية العالم والمتعلم والعامة والخاصة والرجال والنساء كلنا في حاجة إلى الهداية, فالنبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث دعا ربه واستغاث به وقال: "رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل" الذين مهمتهم تتعلق بالحياة فجبريل ينزل بالوحي الذي به حياة القلوب، وميكائيل الموكل بالقطر الذي فيه حياة الأرض، وإسرافيل ينفخ في الصور لحياة الناس في قبورهم.
وذلك لأن المقام مقام طلب الهداية، والهداية هي نور وحياة للقلوب والأبدان، فناسب أن يذكر اسم هؤلاء الملائكة.
وهذا يشمل الهداية الأولى بالثبات إلا أنه يشمل هداية جديدة، وهي طلب الهداية في مواضع الإشكال، ولهذا قال: (لما اختلف فيه من الحق ) وكثيرا ما كان العلماء يدعون بهذا الدعاء في مواضع الاضطراب والاختلاف والمسائل الخفية.
وهنا نلاحظ أن الرسول صلى الله عليه وسلم سأل الهداية وليس الثبات؛ فالهداية هي في حقيقتها ثبات، ولكن قد لا تكون صورتها كذلك، إنها ثبات على المنهج، ومن الثبات أن يتبع المرء الهداية حيث كانت، فالدين المحض يسأل المرء الثبات عليه بكل حال، والرأي يطلب المرء الصواب فيه، ولهذا نقول: إن أعظم الثوابت هو الاجتهاد، وهو أساس المتغيرات فإن المرء إذا اجتهد فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر. لأن اجتهاد المرء ينتقل من فاضل إلى أفضل أو من مفضول إلى فاضل.
وقد شرع الله لنا أن نقول : ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ....﴾ [ الفاتحة: 6] والمعنى دلنا على الخير وأرشدنا إليه وثبتنا عليه ، والصراط المستقيم هو دين الله وهو القرآن والسنة يعني ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام ، فهذا هو الصراط المستقيم وهو الإسلام وهو الإيمان والبر والتقى وهو دين الله ،
تطلب من ربك الهداية لهذا الصراط أن تستقيم عليه وأن يثبتك عليه حتى تموت وأنت على هذا الصراط وهو صراط المنعم عليهم من الرسل وأتباعهم وهو الصراط الذي استقاموا عليه وساروا عليه قال تعالى : ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ﴾ [النساء: 69]
ومن سؤال الهداية أن تسأل الله تعالى أن يهديك الطريق السوي ويجنبك الطرق المعوجة لذا قال في سورة الفاتحة: ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ﴾ والمعنى أنك تسأله أن يجنبك طريق هؤلاء المغضوب عليهم والضالين ، والمغضوب عليهم هم الذين عرفوا الحق ولم يعملوا به وهم اليهود وأشباههم ، والضالون هم الجهال الذين يتعبدون على غير علم وهم النصارى وأشباههم ، تسأل الله أن يجنبك طريق هؤلاء وهؤلاء ، وأن يهديك طريق المنعم عليهم وهم الرسل وأتباعهم أهل العلم والعمل الذين عرفوا الحق وعملوا به هؤلاء هم أهل الصراط المستقيم ، تسأل الله أن يهديك طريقهم وأن يمنحك العلم النافع والعمل الصالح حتى تستقيم ، وهذا كله من الأخلاق العظيمة ، وقال سبحانه في أول سورة البقرة : ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [سورة البقرة: 1] هذه من الأخلاق الفاضلة أيضا ، من أخلاق المؤمنين ، والإقامة للصلاة، والإيمان بالغيب ، والإيمان بالله ورسوله ، والإيمان بالآخرة ، والإيقان بها ، والإيمان بالرسل الماضين وما أنزل إليهم كل هذا من الأخلاق العظيمة ،
اهدنا الصراط المستقيم
فالصراط المستقيم الذي نسأل الله تعالى أن يهدينا إليه هو الطريق المستقيم الذي يؤدي إلى الله, وقد تضمن هذا السؤال معاني متعددة يتوجب على المسلم الحقيقي أن يفهمها ويعرفها:
فكلمة ( إهدنا): تعني طلب الهداية وهذا يدل على أن الإنسان ضال وبعيد عن الله فلو لم يكن ضالاً لما طلب الهداية, وهذه حقيقة ينبغي على كل مسلم أن يعترف بها. إن كل إنسان في هذا الوجود بعيد عن الله لأنه كسر شرائع الله وأصبح ضالاً تائهاً في دروب الإثم, وهذا ما يعترف به القرآن أيضاً ففي سورة العصر يقول تعالى: ﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر:1-3] وكلمة "خسر" معناها أن الإنسان هالك وناقص وضعيف بسبب الطبيعة الناقصة التي ولد فيها.
كذلك في سورة يوسف يقول الله تعالى: ﴿ إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي ﴾ [يوسف: من الآية53] وهذا يعني أن الإنسان لديه ميول سيئة وعواطف فاسدة. وفي (سورة النساء 28) يقرّ القرآن بضعف الإنسان حيث يقول: ﴿ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفاً﴾ [النساء: من الآية28] إن طبيعة الإنسان الساقطة عاجزة عن طاعة الله...
ولو تساءلنا هل يستطيع الإنسان البشري الذي هو في طبيعته هالك وناقص، ونفسه أمارة بالسوء إذ خُلِقَ ضعيفاً، هل يستطيع الإنسان وهو في هذه الحالة من الضعف والتردي أن يعمل أعمالاً صالحة ترضي الله القدوس وتفتح له أبواب الجنة؟ إن هذا الإنسان الذي يرفع هذه الصلاة لا بد وأن يكون سائراً في طريق غير مستقيم، طريق الشر والتمرد، ولذلك هو يطلب الهداية إلى الطريق المستقيم, وعليه أيضاً أن يبذل الأسباب في طلب هذه الهداية يقول الله تبارك وتعالى: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى﴾ [طـه:82] .
ومن بلاغة القرآن في هذه الآية حذف حرف الجر من { اهدنا }؛ والفائدة من ذلك: لأجل أن تتضمن طلب الهداية: التي هي هداية العلم، وهداية التوفيق؛ لأن الهداية تنقسم إلى قسمين: هداية علم، وإرشاد؛ وهداية توفيق، وعمل؛ فالأولى ليس فيها إلا مجرد الدلالة؛ والله عزّ وجلّ قد هدى بهذا المعنى جميع الناس، كما في قوله تعالى: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ﴾ [البقرة: من الآية185] ؛ والثانية فيها التوفيق للهدى، واتباع الشريعة، كما في قوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 2] وهذه قد يحرمها بعض الناس، كما قال تعالى: ﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾ [فصلت: من الآية17] : {فهديناهم} أي بيّنّا لهم الحق، ودَلَلْناهم عليه؛ ولكنهم لم يوفقوا..
وبـالاعـتماد على معنى الهداية هذا يمكن تفسير ما نسب إلى الأنبياء :من ضلال كما في قوله تعالى﴿ وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى﴾ [الضحى:7] , فلا شك عندنا إن النبي صلى الله عليه وسلم كان مهتديا منذ البداية , ولكنه صلى الله عليه وسلم كان ـ كـمـا يـبدو من الآية الكريمة واللّه العالم ـ متحيرا وضالا بالنسبة إلى الخطوة الثانية فهداه اللّه تـعالى إليها ,إذ أن حالة التكامل والتصاعد في سلم الكمال متصورة حتى في حق الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه كان يـعـيش حالة تكاملية متجددة بسبب نزول القرآن الكريم والوحي عليه حتى أصبح وبالتدريج أكمل الناس وأشرفهم.
وعلى كل حال فان الإنسان المسلم لا بد له من أن يكرر هذا القول : ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ....﴾ [ الفاتحة: 6] حتى لـو عـرف كـثـيرا من مفاهيم وحقائق وأحكام الدين , بل يكرره حتى الرسول صلى الله عليه وسلم, لان حالة الكمال الـمـطـلق لا تتم إلا في اللّه عز وجل , والإنسان يتدرج في طريق الكمال المطلق حتى يصبح قاب قوسين أو أدنى منه تعالى , ولذلك فهو يحتاج إلى طلب الهداية في هذا الطريق بشكل مستمر.
فطلب الهداية واجب عينٌّي على كل مسلم بحكم العقل وضرورة الشرع ,كما أنّ اجتناب الضلالة والابتعاد عنها أمرٌ واجبٌ عيناً على المسلمين , وأما التكبر على طلب الهداية فلابد وأن يضر بسلامة العقل والدين, وما الخلل الموجود في حياتنا إلا بسبب خلل في العقول التي أبت تقبل الهداية، ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ [طـه:124] , وما اضطرابات حياتنا إلا بسبب اضطرابات العقول بسبب رفض الهداية.
إعداد ومراجعة: علي عمر بلعجم.