الأفكار التالية هي مناوشات ضرورية مع فهمنا للثورة المصرية التي يجب اعتبارها مع الثورة التونسية , و الثورات اليمنية و الليبية و أرجو في القريب العاجل أن نضيف ثورات أخرى , على أنها أبرز حدث في أوائل الألفية الثالثة و ربما ذلك الحدث الذي سيحدد إلى حد كبير صورة عالمنا الذي نعيش فيه في العقود التالية .. أعتقد أن القضية هنا هي في تجاوز القوالب النمطية ( الإيديولوجية ) السابقة التي اعتدنا على أن نحشر الواقع فيها و نحن نريد فهم هاتين الثورتين أو الموجة الثورية الحالية , إنها فرصة هامة , و ربما تكون من الفرص الأخيرة في حياة جيلنا , لتجاوز الطابع السلطوي لحياتنا , لوعينا , و للفكر و التنظيم اليساريين , و أيضا للفهم النخبوي السائد عما تسميه النخبة بالديمقراطية .. هذا يبدو ممكنا اليوم لعدة أسباب أهمها أن الثورات الراهنة هي نفسها غير نمطية , خارج الصورة النمطية المعروفة للثورة في كل تصورات القوى اليسارية المختلفة , أقول اليسارية لأن اليمين بما فيه الليبرالي و الإسلامي لا يعترف بالثورة كما أعتقد و أزعم , و إذا فعل ذلك مؤقتا تحت ضغط الأمر الواقع , الثوري , فإنه يبقى متمسكا بشدة برفض جذري و قاطع لفكرة الثورة نفسها , الليبرالية تبحث عن معادلة مستقرة لحياة سياسية تتمحور حول نخبة سياسية اجتماعية تحتكر "بشكل شرعي" امتياز ملكية وسائل الإنتاج و ممارسة "حكم رشيد" لا يقوم الاجتماع الإنساني إلا به بحيث تدير العلاقات داخلها "بطريقة تنافسية" , و الإسلاميون ما زالوا حتى اللحظة يصرون على إرث السلطة الإسلامية القروسطية المستبدة بما يعني أن الحاكم سيبقى حتى إشعار آخر حاكما مطلقا يحكم باسم السماء و لا يملك عبيد تلك السماء إلا أن يكونوا مجرد أتباع لهذا الحاكم .. صحيح أن الثورات قامت في ظل إفقار غير مسبوق للجماهير لكن القوة التي شكلت رأس حربة الثورة لم تأت من الجماهير الفقيرة رغم أن انضمام الأخيرة السريع للثورة و مشاركتها هذه لعبت دورا حاسما في انتصار الثورة دون شك لكن تحطيم حاجز الخوف و نشر فكرة الحرية بدأ من صفوف الشباب , شباب الطبقة الوسطى و ربما حتى الفئات الأعلى من تلك الطبقة .. لذلك أفترض أن هذه الموجة الثورية أقرب , إن لم تكن تكاد تتماثل , مع موجة ثورات 1968 في أوربا الغربية ( فرنسا – إيطاليا ) و الشرقية ( تشيكوسلوفاكيا الموحدة يومها ) وصولا حتى أمريكا و المكسيك , تلك الثورات التي وصفت بثورات الشباب و الطلبة أساسا رغم أن العمال قد شاركوا فيها أيضا بحماسة , لم يعرف جيل ما بعد الستينيات عن هذه الثورات , على الأقل بقدر ما عرف عن زعماء الدول و الأحزاب الستالينية يومها , لقد طويت صفحة تلك الثورات حتى من قبل اليسار يومها , ناهيك عن اليمين , عدا عن أنها لم تحلل بما يكفي من قبل قوى اليسار العريضة و أنا أزعم أن هذا يعود , كما في المد الثوري الحالي , إلى طابعها غير النمطي , و التحرري جزئيا ... يقول الشيوعي التحرري البريطاني موريس برينتون أحد أعضاء مجموعة التضامن البريطانية الشيوعية التحررية ( كانت ناشطة من ستينيات القرن العشرين حتى الثمانينيات و التي تعاونت بشكل كبير مع المجموعة الشيوعية التحررية الفرنسية اشتراكية أو بربرية في محاولة وضع تحليل تحرري ثوري للمجتمع الرأسمالي المعاصر و لنظام رأسمالية الدولة الستاليني ) في تحليله لثورة مايو أيار 68 في فرنسا : "لم يكن الجوع هو الذي دفع الطلاب كي يثوروا . لم تكن هناك "أزمة اقتصادية" حتى بأقل معنى للكلمة . لا علاقة للثورة بأي "نقص في الاستهلاك" أو "زيادة في الإنتاج" . و لم يحدث أي "انخفاض في معدل الربح" . أكثر من ذلك لم تقم حركة الطلاب على أساس مطالب اقتصادية . على العكس , وجدت الحركة مكانتها الحقيقية , و استفزت رد فعلها الهائل , فقط عندما ذهبت أبعد من المطالب الاقتصادية البحتة التي قام الاتحاد الطلابي الرسمي باحتوائها داخلها لفترة طويلة ( وسط مباركة كل الأحزاب السياسية و المجموعات "الثورية" اليسارية )" ( 1 ) .. يؤكد برينتون أيضا على فكرة رئيسية , تنطبق على المد الثوري الراهن , هو أنه لم يكن هناك أيضا "تزايد تدريجي في تلك التناقضات" و لا "تطور تقدمي في وعي الجماهير الثوري" , كما جرى اليوم أيضا أمام أعيننا , كان الانفجار مفاجئا بالكامل , حتى لمن قاموا به , و بقيت درجة جذريته و عمقها معلقة و غير محسومة حتى الأيام الأخيرة للثورة ... يحدد برينتون التناقض الرئيسي في الرأسمالية المعاصرة ( التي تصبح بيروقراطية أكثر فأكثر , مرتبطة أكثر بالدولة , دولتية ) ب"التناقض بين من يعطي الأوامر و من يتلقى تلك الأوامر" , و ليس "فوضى السوق" أو "التناقض بين قوى الإنتاج و علاقات الملكية" ... أنا أعتقد أن التحول النيوليبرالي في الأنظمة العربية التي تعبر عن رأسمالية الدولة البيروقراطية , التابعة أساسا , قد فاقم بالفعل من تناقضاتها الداخلية , و خاصة تناقضها الأهم مع القوى الاجتماعية الأكثر تهميشا في المجتمع , لقد لعب الإفقار المتزايد للفئات الأكثر فقرا و تهميشا دورا أساسيا في اندلاع السخط و من ثم انفجاره الثوري , لكن ليس في شكل انتفاضة جوع , بل في شكل احتجاجي على التهميش الاجتماعي و السياسي , لقد أنتج التزاوج النيوليبرالي بين السلطة و رأس المال و درجات الإفقار غير المسبوقة التي أدى إليها , أنتج إحساسا أكثر مرارة و أوضح و أعمق بالتهميش السياسي و الاجتماعي عند الشباب تحديدا , و خلق بالتالي هذه الرغبة العارمة في مقاومة العالم القديم و في تغييره .. في تحليل للمجموعة اليسارية التحررية التي ظهرت بين أواسط الخمسينيات و أوائل سبعينيات القرن العشرين و التي لعبت دورا هاما , على الصعيد الفكري و حتى العملي , في ثورة أيار مايو 68 الفرنسية , و هو أممية مبدعي المواقف أو الأممية الموقفية Situationist International , جرى تحديد تناقضين أساسيين في المجتمع الرأسمالي المعاصر في ظل بقرطته المتزايدة : أولا أن رأس المال يقوم بعملية تحويل أقسام هائلة من المجتمع , من الفئات الاجتماعية المختلفة , إلى بروليتاريين , و ثانيا تسليع كل شيء , تحويله إلى Fetish , إلى شيء , ذا قدرة سحرية , أو تنسب إليه قدرة سحرية , إلى جانب تطور المشهد Spectacle أو الاستعراض الذي يسيطر بصوره على وعي الناس و يكرس وضعيتهم كمتفرجين , منفذين سلبيين لرغبة و قرارات البيروقراطية المكلفة بإدارة المعمل و الدولة البرجوازيتين من قبل رأس المال .. أنا أعتقد أن الروح الثورية عند الشباب , المصري و الجيل الحالي عموما في الشوارع العربية , موجهة أساسا ضد فكرة القمع و الوصاية و الإقصاء , و ضد المؤسسات التي تقوم على هذه الفكرة و على تطبيقها في الممارسة , أي مؤسسات المراقبة و مؤسسات القمع بكل أشكالها , بما في ذلك الاجتماعية و الطبقية , ضد فكرة و ممارسة التراتبية الهرمية التي تقوم على قمع الأقلية التي في قمة الهرم الاجتماعي و السياسي للأغلبية التي في القاعدة و السيطرة عليها و تهميشها و استغلالها و حرمانها من نتاج عملها ... أزعم أن هذا واضح في مركزية فكرة الحرية عند الشباب , بشكل ضبابي بالتأكيد لكن أيضا بفهم تحرري ينتقد و يرفض و إن بصورة مشوشة كلا من فكرة الإقصاء و التهميش و مؤسسات القمع و الكبت أيضا .. يجب هنا أن نشير بوضوح إلى أن مؤسسات القمع و الكبت هذه قد انحنت أمام العاصفة لكنها ما تزال هناك بكل تفاصيلها , حتى بتفاصيلها القديمة و السابقة الفجة و المكروهة ذاتها , من الدولة إلى الشرطة و الجيش و أجهزة القمع الأخرى إلى مؤسسة المعمل , الجامعة , المدرسة , و مؤسسة الجنس الرسمي ( العائلة ) و غير الرسمي ( سوق العاهرات الخ ) , و المسجد أو الكنيسة , الخ , ما تزال البيروقراطية هي صاحبة الكلمة الفصل في كل جوانب الحياة الاجتماعية , ما تزال تحصر بأيديها كل السلطة , و ما تزال هي من يتخذ كل القرارات فيما يتعلق بحياة و شروط حياة أعضاء تلك المؤسسات الذين يفترض منهم أن ينصاعوا لسلطة من في الأعلى و أن ينفذوا أوامر أولئك الذين في الأعلى دون تردد أو نقاش , و لأن استمرار الشكل السابق أصبح مستحيلا تحاول تلك المؤسسات اليوم أن تفرض "بديلا" وهميا عن نظامي مبارك و بن علي , يضمن استمرار نفس المؤسسات السلطوية الفوقية الخاضعة بالكامل لبيروقراطية سيتغير رأسها بالتأكيد بدرجة تختلف حسب ضرورات إعادة إنتاجها و ذلك بعد تعديلها بما يضفي عليها شرعية أكبر في عيون و وعي من يفترض أن يخضعوا لها دون تردد أي أولئك الذين في قاعدتها و الذين سيفرض عليهم أن يستمروا بالتصرف كأتباع , كأشياء , و كمتلقين و منفذين للأوامر , و في المحصلة الأخيرة كفئات و طبقات اجتماعية مستغلة ( بفتح الغين ) تعمل لإنتاج ثروة من هم في الأعلى , كبروليتاريين ... لذلك تصر القوى الاجتماعية و السياسية المهيمنة و منظروها على أن تحصر ما يسمى بالفترة الانتقالية في دائرة "الخبراء الدستوريين" و في مطالب "تشكيل حكومة جديدة , حكومة تكنوقراط , أو تعديل حكومتي شفيق و الغنوشي" , الخ دون أي حراك فعلي في الشارع .. يجب هنا أن نلاحظ أنه للثورات عمر , إنها أيضا تعيش , و تموت عندما تفقد زخمها , تولد و تنمو ثم تصير كهلة , و هي أيضا تمرض , لكن هذا كله يحدث بسرعة هائلة تماما كما بنفس السرعة التي تندلع بها , يمكن مثلا فيم يتعلق بثورة مايو أيار 68 التي قام بها الشباب و الطلاب و العمال الفرنسيون , أن نعتبر احتلال مبنى الإدارة في جامعة ناتيير الباريسية في 22 مارس آذار شرارتها الأولى , و ذروتها في شهر مايو أيار العاصف , في 31 مايو أيار عندما كانت حكومة ديغول على شفا الانهيار عندما كان هناك 10 ملايين عامل فرنسي مشارك في الإضراب العام و عندما وقعت في اليوم السابق مظاهرة ضمت نصف مليون متظاهر في باريس , أعلن ديغول في ذلك اليوم العصيب بالنسبة لنظامه حل الجمعية الوطنية و الدعوة لانتخابات باكرة في 23 يونيو حزيران التالي و أمر العمال بالعودة إلى العمل بعد أن تأكد من ولاء الجيش و من وجود قطعات كافية حول باريس لقمع الحركة . بعد أيام فقط كانت معنويات العمال تنهار بسرعة و في 5 حزيران يونيو بدؤوا بالعودة إلى العمل , ساعد الحزب الشيوعي الفرنسي و منظمته النقابية في كسر الإضرابات , بالخداع في بعض الأحيان , في حالة مترو باريس مثلا كان ممثلي الحزب و نقابته ينتقلون من محطة لأخرى و يخبرون العمال في تلك المحطة أن بقية المحطات قد عادت للعمل , ثم ينتقلون إلى محطة أخرى فبعدها و هكذا , في السادس من حزيران يونيو استعادت الشرطة جامعة السوربون التي كانت تحت سيطرة الطلاب و في الانتخابات التشريعية فاز حزب ديغول و هكذا انتهت الثورة عمليا ... لقد فتح سقوط بن علي و مبارك الباب أمام الثورة الحقيقية , فالقضية اليوم أكثر جذرية مما مضى , من تلك الأيام التي كان الصراع فيها يدور على فرض تغيير حقيقي في رأس النظام , الشيء الوحيد الذي يمثل "تغييرا" "جديا" في أنظمة فردية استبدادية , القضية اليوم هي مواجهة التراتبية الهرمية , مواجهة الإقصاء و التهميش و الكبت بكل أشكالها , مواجهة مؤسسات القمع , الفكري و الاجتماعي و السياسي و الروحي و الجسدي , و أنا أزعم أن أكبر خطرين يتهددان بدء هذه الثورة الحقيقية و يهددان مصيرها سلفا هما خطر استخدام فكرة الوطن كفكرة و قضية مركزية في حالة ما بعد التغيير الأولي و حتى للتغيير نفسه , و ثانيهما القيام بتطويب الشهداء ... في السابق قالت الأناركية الأمريكية روسية الأصل إيما غولدمان أن الوطنية هي خطر على الحرية , إن الوطن فكرة مجردة لا حياة فيها , مجردة عن البشر , عن سكان هذا الوطن , بل إنها فوقهم , متسامية على وجودهم الفعلي و مصالحهم الفعلية , و المتوقع وفقا لمركزية تلك الفكرة هي أن "يضحي" الناس بتلك المصالح في سبيل "الوطن" , بما في ذلك "التضحية بأنفسهم" , هكذا يبدو أن من استشهد في يناير و فبراير فعل ذلك في سبيل شيء فوق إنساني , فوق ذواتهم , شيء أهم و أعظم منهم , دون أن تكون تلك الأولوية بحاجة لأي نقاش , نقل فيلهلم رايتش أحد أبرز المحللين النفسيين لظاهرة هتلر و النازية أن النازية , مثل الدين , اعتبرت أنها فكرة أو حركة "أولية" , أي أنها غير قابلة للنقاش , و الأفكار التي تزعم أنها أولية , مثل الوطن أيضا أو الوطنية , لا تسمح حتى بمناقشة منطقية لهيمنتها و لأولويتها , يقول رايتش ( 2 ) أنه فقط الأفكار التي تقوم على النقاش يمكن إخضاعها للنقاش مرة أخرى , يمكن مناقشتها أو نقدها , هكذا ظهرت النازية و هكذا أيضا تظهر الحركات القمعية التي يصبح النضال ضدها مهمة شاقة لمن تقمعهم ... في "اللاعقلانية في السياسة Irrational In politics" يتكئ برينتون على نظرية رايتش في دور العائلة كمؤسسة قمع أولية في عملية Conditioning أو ما يمكن تسميتها الإشراط أو تنمية السلوك الانعكاسي ( 3 ) حيث يلعب الأبوان الصارمان جنسيا و المكبوتان جنسيا في نفس الوقت دورا تأسيسيا في تنمية شعور الخضوع للسلطة الخارجية , الطفل الذي يتعرض للتوبيخ من أبويه عندما يحاول تلبية رغباته يتعلم كيف يقمع رغباته تلك استجابة لذلك التوبيخ , هنا يرتبط القمع و الكبت الجنسي بصورة الأب أو الأم , بمن يمارس هذا القمع و الكبت , أو بالأحرى , ينقله إلى أولاده , هكذا تنشأ صورة السلطة في وعيه , التي ستبقى تحمل "صفة و شكلا أبوية" حتى مماته , هكذا يجري بواسطة القمع و الكبت , الجنسيان أساسا , خلق طفل خجول , خائف , متردد , مطيع , أو بالمنطق السلطوي "جيد" و "أخلاقي" , "منضبط" , المأزق هنا ليس فقط في قمع الرغبة , بل في قمع فكرة الحرية و التمرد نفسها , في أن هذا الكبت و القمع ينتج الخوف و القلق من الحرية نفسها , على الرغم من كل المعاناة و الألم الذي يشعر بهما الإنسان المقموع نتيجة واقع القمع و الكبت الذي يتعرض له و نتيجة استسلامه المستمر لاستبداد و قمع السلطات المختلفة , أو للمؤسسات السلطوية المختلفة في حياته ... هذه السلطة الأبوية التي قامت على القمع و الكبت , أو على نقله و تكريسه بالأحرى لأنه ينشأ خارجها و لأنها هي ضحيته بقدر ما هي وسيلته ليستمر و يعيد إنتاج نفسه , تزعم و تكرس نفسها , كأية سلطة و مؤسسة و فكرة سلطوية لاحقة , كفكرة أولية , غير قابلة للنقاش , فوق فكر و عقل و جسد و رغبات الإنسان المقموع التي يجب أن تخضع جميعا لها , ليس الوطن شيء حقيقي , إنه رمز من رموز تلك السلطة , هناك وطن فعلي بالتأكيد لكنه يتألف من بشر حقيقيين مقموعين يفترض أن تكون حريته هي حريتهم , و ليس وطنا فارغا أو ليس وطنا يتألف من السلطة السياسية القائمة أو رموزها , إنه الإنسان نفسه , و من حوله , كل من يعيش على هذه الأرض , الوطن الحقيقي مقموع مثل أبنائه المقموعين , مقموع من الوطن السلطوي , وطن السلطة , السلطة التي تقمعه أولا و التي لا يمكن أن توجد أصلا دون أن تقمعه ... تطويب الشهداء يعني تحويلهم من بشر إلى كائنات فوق بشرية , إنه ممارسة دينية تستحضر في وقت لاحق كهنوتها و طقوسها و في مرحلة لاحقة لكن قريبة , تحولهم إلى رموز لمقدسها فوق الإنساني , و الأهم أنها ممارسة تقوم على تهميش الناس الذين نجوا , على تكريس شعورهم بالدونية , و ربما حتى الذنب , أمام ذكرى من ماتوا في سبيل حريتهم و حرية هؤلاء الناس الذين نجوا من رصاص و هراوات حراس نظامي مبارك و بن علي , هذا يعني تحويلهم إلى رموز لقمع الناجين و ليس رمزا لحريتهم ( يكفي لنرصد هذا التحول أن نقرأ شعار : الشهداء أكرم منا جميعا , المكافئ لقول مشهور عن حافظ الأسد الشهداء أكرم ... و أنبل ... , الحقيقة أننا جميعا متساوون كما يفترض في درجة الكرامة و النبل الخ و أن الشهداء ماتوا لتأكيد هذه المساواة أساسا ) ... إنني أزعم أن تحريرنا كبشر لا بد أن يكون عبر تحطيم كل أشكال و مؤسسات القمع و الكبت و التهميش و الاستغلال و الاستلاب , نقطة الصفر في هذه العملية التي ستستمر و ترتقي دون توقف إلى ما نهاية بالطبع طالما وجد البشر , و التي أعتقد أنها النقطة المركزية في الشيوعية التحررية أو الأناركية , هي أن يمتلك الإنسان وسائل إنتاجه و أن يقرر مصيره بنفسه مباشرة , لا توجد هنا أنصاف حلول أو أنصاف حرية أو أرباع أو أية أجزاء أخرى , كل شيء أقل من هذا لا يعني إلا شيئا واحدا , ألا و هو العبودية , و العبودية هي من تلك الأشياء في الحياة التي لا يمكن تقسيمها إلى جيد و سيء , أسوأ و أفضل .... الليبراليون هنا يحصرون التحرر في القوانين و الدساتير المكتوبة , إنهم يحررون الإنسان على الورق فقط , لأنه كما قال ميخائيل باكونين ذات يوم : "إن أولئك العبيد .. بالمعنى الاجتماعي هم أيضا عبيد بالمعنى السياسي .. إنهم لا يملكون التعليم , و لا وقت الفراغ و لا الاستقلالية الضرورية بكل تأكيد لممارسة حرة و ذات معنى لحقوق مواطنتهم " ( 4 ) , إنهم ينتجون قمعا مضاعفا , بتسليع كل شيء , و يساوون البروليتاري ببرغي الآلة و يحولون عمله و وجوده بأسره إلى سلعة , مال , إلى سلعة السلع , لكي يكملوا عملية اغترابه و يدفعوها إلى درجة غير مسبوقة .. إن عملية القضاء على مؤسسات القمع و الكبت ليست إيديولوجية , لقد أثبتت الظروف مثلا أن شباب الإخوان أنفسهم قادرون على تحرير أنفسهم و المشاركة في تحرير المصريين لأنفسهم , السيء في الموضوع أنه مع عودتهم إلى مؤسساتهم التنظيمية و ممارستهم التنظيمية الروتينية التي تتطلب منهم السمع و الطاعة لأهل الحل و العقد في قيادة الجماعة , كما سيفعل سواهم من المصريين , سيعودون من جديد تحت سطوة مؤسسات القمع و الكبت السائدة , تبقى فقط ذكريات نشوة أو Euphoria الأيام 18 التي حاربوا فيها من أجل حريتهم , التي أزعم أنها إذا لم تكن نشوة جنسية فإنها نشوة محرمة بما لا يقل عن النشوة الجنسية نفسها ( إن نشوة الحرية نشوة إشباع من نمط رائع , مثل النشوة الجنسية , لكنها مثلها أيضا الأكثر تحريضا للقلق و الخوف من التلبية أو الاستجابة الحرة للرغبة , الخوف من هذه الحرية المفاجئة ) تبقى هذه النشوة سلاحهم و سلاحنا الأمضى في الأيام القادمة للنضال ضد مؤسسات القمع و التراتبية الهرمية السلطوية القائمة , أن تستثيرهم تلك النشوة , ذلك الإشباع المفاجئ لذواتهم , تلك النسمة المنعشة من الحرية ليبحثوا عنها من جديد و ليتحدوا كل من يحول بينهم و بين مثل هذا الإشباع المستمر لجوهر كينونتهم ... العدو الأول لمثل هذا الإشباع المستمر , لإحساس دائم بهذه النشوة – الحرية هو أن تتمكن النخب السائدة من فرض "تغييرها" أي فرض شكل ما , معدل , من المؤسسات الفوقية السلطوية القائمة , التي قد تتطلب من الجوعى و الفقراء و المهمشين و المكبوتين أن يذهبوا كل عدة سنوات ليختاروا من بين تلك النخب من سيكون سيدهم , "مرة واحدة في ذلك اليوم , تأتي البرجوازية , التي تستغلهم و تضطهدهم بشكل يومي , تأتي أمامهم و تتحدث عن المساواة , الأخوة , و تسميهم بشرا مستقلين , و أنها تريد أن تكون خادمتهم و ممثلهم المتواضع . و ما أن يمر ذلك اليوم حتى تتبخر الأخوة و المساواة كالدخان , و تصبح البرجوازية مرة أخرى هي البرجوازية القديمة , و تعود البروليتاريا , أو المواطنون المستقلون , إلى عبوديتها" ( 4 ) , أو كما شرح الأناركي إيلسي ريكلوس جوهر الديمقراطية البرجوازية : "أن تنتخب سيدا أو أكثر , لفترة قصيرة أو طويلة , يعني أن تتخلى عن حريتك" , "أن تصوت أو أن تنتخب , يعني أنك تتخلى عن قوتك" ( 5 ) , لا شك أن قوى كقيادات الوفد و الإخوان أو الحزب الديمقراطي التقدمي و اتحاد الشغل التونسي تنظر بسعادة لمثل هذا التطور , لكن هذا لا يعني أي شيء بالنسبة للناس العاديين , بمن فيهم الشباب الذين فجروا ثورتي مصر و تونس , لأن هذا يعني , كما في حالة ثورة أيار مايو 68 , نهاية الثورة الفعلية , نهاية النضال و ربما حتى الحلم بالحرية , حتى المعركة من أجل اتحاد نقابي مستقل عن النظام القائم لن يعني في حالة استمراره كمؤسسة فوقية تخضع لبيروقراطية محترفة إلا أن زعماءه الجدد ستنفتح أمامهم إمكانية الاندماج ببنية النظام القائم ضمن معادلة جديدة من توازن القوى داخل البيروقراطية الحاكمة ... أنا أزعم أنه لا بد من تفكيك كل الأفكار و المفاهيم "الأولية" لتصبح بشرية , واقعية , قابلة للنقاش , للنقد و حتى للدحض و النفي , أن تكون خاضعة للبشر الواقعيين بدلا من أن يكونوا هم خاضعين لها , أن يتحكموا هم بها و أن يحددوا هم معناها و مضمونها من خلال جدال عام و حر بدلا من أن تتحكم هي بهم و تفرض عليهم من قبل المؤسسات القائمة , أولا أن نفهم من كلمة الإنسان ذلك الإنسان ذا الوجود الواقعي , البروليتاري طالما أن الرأسمالية المعاصرة بما في ذلك التابعة تحول البشر عموما خارج حدود الرأسمالية و البيروقراطية إلى بروليتاري , الإنسان المهمش , المقموع , ليس الإنسان المجرد الليبرالي , و لا البروليتاري المجرد من وجوده الواقعي المؤدلج أي صورة الإنسان في الإيديولوجيا السائدة و الذي عاش في الواقع كتابع , إن لم يكن كعبد , لبيروقراطية الحزب الستالينية بل و في معسكرات اعتقالها و معسكراتها للعمل الإجباري , و الذي استخدم فقط كفكرة "أولية" لتبرير سلطة هذه البيروقراطية ... أزعم أنه لا بد من البدء بتفكيك المؤسسات القمعية , مؤسسات الكبت القائمة , ستكون هذه هي بداية الحرية الحقيقية هذه المرة ... في عام 1975 تسأل برينتون "هناك .. تفاوت صارخ بين الاتجاهات الراديكالية لهذه الفترة ( التي يشارك فيها الكثيرون اليوم ) و بين القبول المستمر لمعظم من يسمون ثوريين ( ستالينيون , تروتسكيون , ماويون , الخ ) بالمؤسسات و الممارسات السلطوية" ( 6 ) , ربما لهذا السبب على الأغلب تلى ذلك المد الثوري العارم في ستينيات القرن العشرين فترة صمت , أو فترة ركود طويلة اختفت خلالها آثارها و حتى أفكارها التحررية , و هذا ما أزعم أنه أحد الدروس الهامة لثورات 1968 التي يجب تعلمها لكي نسهم في تحويل هذا المد الثوري الراهن إلى حقيقة واقعة , إلى تغيير جدي , تغيير جذري .....
الزهرة البيضاء عضو مبدع
الساعة الأن : المزاج : 370 تاريخ الميلاد : 19/03/1990 بطاقة الشخصية مواضيعي : . مواضيعي : .
موضوع: رد: محاولة لفهم الثورات العربية الحالية السبت سبتمبر 24, 2011 1:25 pm