قلة من الناس هم الذين يستطيعون إخفاء همومهم ومشكلاتهم , والأقل هم الذين يستطيعون الصبر
على الألم والبلاء ومصائب الدنيا , فما أكثر الذين يشتكون من النسيم إذا مسَّ أثوابهم , وما أكثر
الذين لا يطيقون أذى ساعة أو مرض يوم , وما أكثر الذين يثرثرون في كل وقت لكل من يلقون
بمعاناتهم وآلامهم وأمراضهم وقد تزور أحد هؤلاء فما أن تجلس إليه حتى يروي لك تاريخ
أمراضه , ويستعرض معك أدويته , ويفتح لك ملفات معاناته , فتتركه وأنت تشعر
بالمرض والأسى , وكنت دخلت عليه سليما معافى !!
والأسوأ من هؤلاء جميعا هم هؤلاء الذين يبالغون في وصف آلامهم ويسرفون في إظهار أحزانهم
ويضخمون معاناتهم استدرارا لعطف الآخرين عليهم , وكسب مودتهم , وهذا من أوضع الأثمان
التي تقدم لكسب العطف والمودة .
أصبح الصبر في هذا العصر عملة نادرة حين أصبحت التقوى زينة يتجمل بها بعض الناس لا إيمانا
ينعكس على العمل والسلوك .
ومن هنا ربط الله سبحانه وتعالى الصبر بالتقوى , فلا يصبر بحق إلا تقي بحق , فالتقوى تعلم الصبر
والصبر ثمرة من ثمار التقوى , فكان ذلك عند الله سبحانه وتعالى من عزم الأمور كما جاء في
الآية ( وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ) [ سورة آل عمران : 186 ]
فتتشكل بهذه الآية تلك المعادلة الإيمانية الصعبة في حياة المسلم المعاصر :
تقوى + صبر = عزم الأمــور .
وتندرج تحت هذه المعادلة القرآنية عشرات الأحاديث النبوية التي تؤكد حقيقتها , أحاديث لو أدركها
المسلمون وعملوا بها لما اشتكى مخلوق من أذى أو مصيبة أو مشكلة , يقول رسول الله
صلى الله عليه وسلم : ( يقول الله عز وجل إذا ابتليت عبدي ببلاء فصبر , ولم يشكني إلى عواده
أبدلته لحماً خيرا من لحمه , ودماً خيرا من دمه , فإذا أبرأته أبرأته , وإذا توفيته فإلى رحمتي )
[ أخرجه مالك في الموطأ ] .
وقال داود عليه السلام : يا رب ما جزاء الحزين الذي يصبر على المصائب ابتغاء مرضاتك ؟
قال جزاؤه أن ألبسه لباس الإيمان فلا أنزعه منه أبدا وقال تعالى من فوق سبع سماوات :
( إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ) [ سورة الزمر : 10 ] .
وقال داود لسليمان عليهما السلام : يستدل على تقوى المؤمن بثلاث : حسن التوكل فيما لم ينل ,
وحسن الرضا فيما قد نال , وحسن الصبر فيما قد فات .
وقال نبينا صلى الله عليه وسلم : ( من إجلال الله ومعرفة حقه ألا تشكو وجعك ولا تذكر مصيبتك )
وجاء في أخبار السلف أن امرأة عثرت فانقطع ظفرها فضحكت , فقيل لها : أما تجدين الوجع ؟!
قال أحد الصالحين : الصبر الجميل هو ألا يعرف صاحب المصيبة من غيره , ولا يخرجه من حد
الصابرين توجع القلب ولا فيضان العين بالدمع , إذ يكون من جميع الحاضرين لأجل الموت
وساء , ولأن البكاء توجع القلب على الميت , فإن ذلك مقتضى البشرية , ولا يفارق الإنسان
إلى الموت , ولذلك لما مات إبراهيم ولد النبي صلى الله عليه وسلم فاضت عيناه , فقيل له :
نهيتنا عن هذا ؟ فقال : ( إن هذه رحمة وإنما يرحم الله من عباده الرحماء ) .
وأوحى الله إلى أحد أنبيائه ( إذا أنزلت بك بلية فلا تشكني إلى خلقي واشكُ إليَّ كما لا أشكوك
إلى ملائكتي إذا صعدت فضائحك ومساؤئك ) .
عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما تجرع عبد قط جرعتين أحب إلى الله من جرعة غيظ
ردها بحلم , وجرعة مصيبة يصبر لها الرجل , وما خطا عبد خطوتين أحب إلى الله تعالى من خطوة
إلى صلاة الفريضة , وخطوة إلى صلة الرحم ) [ ابن ماجة بإسناد جيد ] .
وما أجمل هذا الحديث الشريف وأعظمه الذي يجمع كل الخصال الحسان التي يحتاجها المسلم
في حياته اليومية .
صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فما أحوجنا إلى هذا الحديث , ولو عملنا بما جاء فيه وحده
لفككنا عقدة المعادلة الصعبة في حياتنا المعاصرة !
.. .. ..
المصدر :
التعامل مع النفس والناس كما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
الدكتور محمد أبو بكر حميد