--------------------------------------------------------------------------------
الأهداف الكبيرة لا تسمح لأصحابها بهناء النوم، ولا لذة الركون أو رغد المُستقَر..
إنها تُضِجّ المضجع، وتُهيّج مكامن الهمة، وتُشعل في الصدر ناراً موقدة، لا يُطفئها سوى تحقق الغاية، ونيل المراد، وبلوغ الحلم.
يُروى أن أبا مسلم الخراساني، وهو طفل صغير، كان ينام فلا يرتاح على جانب، يتقلب على جنبيه كالملسوع؛ مما حدا بأمه أن تسأله ذات يوم: أيْ بني، ألا تنام؟
فأجابها: لا يزوروني النوم بسهولة يا أماه.
وعندما سألته عن السبب قال لها: همّة يا أماه تُناطح الجبال، ونفس توّاقة!
فتعجّبت من طموح في صدر فتى صغير، وسألته وابتسامتها لا تفارقها: فماذا تفعل يا بني؟
فأجابها: يا أماه الخمول أخو الموت..
ولم تمر سوى سنوات ليست بالكثيرة، وكان هذا الفتى أحد أقوى القادة، وأشدهم بأساً؛ فَهَدَم الخلافة الأموية، وأقام بدلاً منها الخلافة العباسية، وصنع أسطورة لا يمكن أن ينساها التاريخ، يذكره المؤرخ الإمام الذهبي قائلاً: "كان من أكبر الملوك في الإسلام، كان ذا شأن عجيب ونبأ غريب، من رجل يذهب على حمار من الشام حتى يدخل خراسان؛ فيملك خراسان بعد تسعة أعوام، ويعود بكتائب أمثال الجبال، ويقلب الدولة ويقيم دولة أخرى"، والمدهش في الأمر أن هذا الرجل المدهش توفي وهو في مطلع الثلاثين من عمره!
إن الأهداف العظيمة البرّاقة هي التي تُحدّد بوصلة حياة المرء منا، وتوجهه إلى الاتجاه السليم، وترسم له معالم الطريق؛ فإن لم تفعل؛ فلا يجب أن نُطلق عليها أهدافاً حقيقية، إنها تكون حينذاك أضغاث أحلام، وأمنية عاجز!
بيْد أن هناك طرحاً كثيراً ما يدور في ذهن شبابنا، وهو "لا أعرف هدفاً لي في الحياة" أو بصياغة أكثر دقة "عندي طموح وهمّة؛ لكنني لا أستطيع تحديد هدف دقيق وصحيح، أُسخّر هذه الطاقة في تحقيقه".
وهذا الطرح على غرابته مُتوقع في مجتمع كالذي نحيا فيه؛ حيث تحكمنا كثير من القوانين الصارمة القاسية، وتسلب منا حقنا في الاكتشاف والتجريب واتخاذ القرارات، ولعل أحد أخطر الجرائم التي تُرتكب ضد شباب هذه الأمة وهو إلغاء إرادتهم في اختيار تخصصاتهم الأكاديمية، وترك الأمر لمكتب التنسيق أو رغبة الوالدين!
غير أنني أؤمن دائماً أن الوقت لم يفُت بعد.. وقدرة المرء منا على صياغة أحلامه وأمانيه ممكنة بغضّ النظر عن عمره، وأن مقولات من نوعية "فات الوقت"، و"لم يعد ممكناً" هي عبارات تشاؤمية تُفرزها همّة خاملة، ويكفي أن أخبرك أن الوحيد الذي لُقّب بـ"سلطان العلماء" في تاريخنا الإسلامي، هو الشيخ الجليل "العز بن عبد السلام"، والذي قاد الثورات في الشام، وكانت له مواقف عظيمة هناك، ثم جاء إلى مصر ليقود مع قطز حملة شعبية كبيرة.. قَضَت على التتار، هذا الرجل بدأ في طلب العلم وهو في الخمسين من عمره، وبالتعب والصدق والكدّ والكدح والإخلاص صار.. سلطان العلماء.
يجب إذن قبل أن تجلس لتكتب هدفك، أن تؤمن بأن المستقبل يحمل بين طياته أملاً وإشراقاً لك، والنبي صلى الله عليه وسلم يؤكد لنا هذا المعنى بقوله "استبشروا بالخير تجدوه".
أحضر ورقة وقلماً، ابحث عن مكان هادئ لا يقاطعك فيه أحد، ثم ابدأ في تحديد ما الذي تريد تحقيقه في الحياة وبدقة، يجب أن تختار هنا بحسم: هل هدفي يتماشى مع تخصصي الأكاديمي أم لا؟ بمعنى: أنا تخرّجت من كلية (التجارة، أو الهندسة، أو الحقوق)، هل أريد أن أقضي حياتي في هذا التخصص الذي درسته أم لا، هنا أنت الذي تختار، لا والديك، ولا أصدقاؤك، القرار لك وحدك.
يجب وأنت تختار أن تراعي بعض الأمور، وهي: أن تكون أهدافك مشروعة ومتصلة على نحو ما بطاعة الله سبحانه، وأن تكون طموحة؛ حيث إن الأهداف المتواضعة البسيطة لا تتحدى القدرات، ولا تستفزّ طاقتك الكامنة، وفي المقابل احذر أن تكون أهدافك خيالية أو مستحيلة؛ بل يجب أن تكون قابلة للتحقيق كي لا تشعر حيالها بالعجز والانكسار، وتصبح مصدراً لشعورك بالشقاء؛ فيكون اليأس في انتظارك آنذاك.. إن الهدف الجيد هو الذي يتحداك؛ لكنه لا يُعجزك.
تريد مثلاً أن تُصبح رجل أعمال مرموق، أو سياسياً بارعاً، أو عالماً يفيد الآخرين بعلمه..
كلها أهداف مشروعة، ولديك القدرة على تحقيقها، قد تكون صعبة، هذا أمر جيد ومطلوب؛ لكنها -كما قلنا- ليست مستحيلة أو خيالية.
حان الآن أوان الجزء الأخطر، وهو وضع الخطة للوصول إلى الهدف.
يُقسم أساتذة الإدارة الخطط إلى نوعين رئيسيين:
الأولى: طويلة المدى، أو "الخطط الاستراتيجية".. تتراوح من خمس سنوات إلى عشرين عاماً أو أكثر، وهنا نحتاج إلى أن نكتب بوضوح هدفنا، لا يكفي أن أقول "أريد بعد عشر سنوات أن أكون رجل أعمال ناجح"؛ بل يجب أن أحدّد أيضاً ما الذي أعنيه بهذه الكلمة، مثلاً في عام 2021 -إن شاء الله- سأكون صاحب شركة استيراد وتصدير تعمل في مجال كذا وكذا.
أكرر، أنت تكتب بناء على رؤية وقناعة وتفكير، وفوق هذا إيمان بقدرتك على تحقيق هذا الهدف.
النوع الثاني من الخطط هو الخطط قصيرة المدى أو "الخطط التكتيكية": وهي التي تصبّ في خدمة الهدف الاستراتيجي.. اسأل نفسك: ما الذي يجب أن أفعله كي أكون رجل أعمال يمتلك شركة استيراد وتصدير؟
اكتب الإجابة ولتكن مثلاً: القراءة عن شركات الاستيراد، ومتابعة أعمالهم لمعرفة بعض المعلومات عن طريقة عملها - سؤال محاسب قانوني عن كيفية تأسيس شركة في هذا المجال - حضور دورات في إدارة الأعمال واللغة والكمبيوتر مثلاً - توفّر مبلغ مالي قدره كذا - عمل شبكة من العلاقات مع رجال أعمال ومحاسبين.
ضع هذه الأمور على شكل خطط قصيرة المدى محددة الزمن، مثلاً في خلال 7 أشهر سأنتهي من كذا، في السنة الأولى سأفرغ من دورات كذا، سأحتاج إلى العمل لبعض الوقت من أجل توفير المبلغ الذي سأحتاجه كلَبِنَة أولى، أو سأحتاج للبحث عن شركاء مواصفاتهم كذا وكذا.
مجرد وضعك لخطط مُقيّدة بأوقات انتهاء؛ يعني أنك موضوع وجهاً لوجه أمام هدفك، وعليك أن تُثبت جِدّيتك في تحقيق هذا الهدف.
هل سأُبلغك تحياتي وأختم المقال؛ متمنياً لك حظاً سعيداً؟
في الحقيقة لا.. أنا بحاجة لتأكيد أمر مهم، وهو أن الحياة معترك، ميدان كفاح، خلقنا الله فيها، وهو يؤكد {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ}؛ أي أننا في اختبار صعب وقاسٍ، ولا يوجد من بني البشر من عاش أو يعيش، أو سيعيش مرتاحاً؛ لذا فتأكد أن الصعوبات جزء من سنة الحياة؛ فلا تبتئس أو تحزن إذا ما تعثّرت أو كبوت أو فشلت في تحقيق أي من الأهداف التي كتبتها؛ بل حاول ثانية وثالثة وعاشرة، انهض من كبوتك سريعاً، ولا تسمح للقنوط واليأس أن يقيدك.
وبقي أن أقول: إننا مهما فعلنا ثم حُرمنا عناية الله؛ فلن نكون!
ادعُ الله دائماً أن يُلهمك الصواب، وأن يقوّيك ويوفقك، وتوكل عليه، وكفاك به ناصراً ومعيناً